Tuesday 16th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    03-Feb-2017

من قراءة العالَم إلى نقده - معاذ بني عامر
 
الغد- للتأسيس للنقد بصفته مقولة وجودية بالدرجة الأولى –بما يتجاز حدود النقد الأدبي/ الديني/ الفلسفي... إلخ - تأسيساً ماكناً ومتيناً، فلا بُدّ له أن ينبني على عملية قرائية أولاً، بما يتجاوز –أيضاً - ما هو تموضع في النصوص المكتوبة تحديداً، إلى مرحلة اعتبار الوجود كاملاً مادة للقراءة، لغايات نقدها، وإجراء تعديلات جوهرية على بنية هذا النص، لغاية انسجامها مع المشروع الحضاري للإنسان في هذا العالم.
ولكي يكون مشروع القراءة أكثر إحكاماً، فإني أشير إلى نوعين من القراءة، كمقدمة ضرورية لبلوغ نتيجة "النقد"؛ وانتقال الإنسان و/ أو الأمة، من مرحلة التلّقي السلبي إلى مرحلة الإيجاب الحضاري:
1 - القراءة الفردية؛ إذ تضطلع بها ذات واحدة، وتمارس حقّها في استبصار معالَم النص الوجودي. وهي إذ تفعل ذلك –مستخدمة حواسها وعقلها - فإنها تؤكد حضورها الأقنومي في هذا العالَم؛ فهي مشاركة حقيقية في استجلاء معالم هذا الوجود، بما يمنحها فرادةً لا تتأتّى لغيرها، ولا يمكن –في الوقت نفسه - أن تنوب عن غيرها، فهي –والحالة هذه - مُتحقّقة كذاتٍ فردية على المستوى الأنطولوجي. فالذات إذ تقرأ هذا العالَم، فإنها تكون قد شقَّت صدفة سلبيتها الأنطولوجية، وشقشقت لتعاين العالَم كما هو كمرحلةٍ أولى عبر التلّقي الحواسي، وإجراء تعديلات عقلية على البنى القائمة كمرحلةٍ ثانية، فالصيغة التي يتموضع بها العالَم تتصادم مع مرحلة ما بعد التلّقي القرائي. ولربما كانت مرحلة القراءة الفردية هي أول صيغة احتجاجية على ما هو قائم، لغاية نقله إلى ما يجب أن يكون.
2 - القراءة الجمعية؛ إذ تضطلع الذات الجمعية بقراءة معالم هذا العالم، والدخول في حِراك تفاعلي معه وعدم الركون إلى الرضا بما هو قائم. فالنجمة القائمة في أعالي السماء، هي مثار قراءة أساساً، بطريقة التأمّل والسؤال، بحيث لا يُنْتهَى من فعل القراءة إلا وتكون معالم هذه النجمة قد تبدّلت في الذهن الجمعي، وانتقلت من طور أقل حضوراً لهذه الذات الجمعية، إلى طور أكثر حضورا لها. وكلّما استطاعت أمة من الأمم تعزيز فكرة قراءة العالَم على المستوى الفردي، كانت قراءاتها الجمعية أكثر جدوى، وأكثر تحريراً لهذه الذات؛ فالوعي المُتحصّل بفعل قراءات كثيرة وواعية، غير تلك القراءات التي تُغرّد وحدها، ولا سيما فيما تعلّق منها باختصار الوقت.
من هنا تتولّد الرغبة في نقد العالَم، وإجراء تعديلات على ما هو عليه. وإذا كانت قراءة العالَم بمثابة الهيكل العظمي، فإن النقد بمثابة اللحم الذي يكسو هذا الهيكل، ويمنحه القدرة للوقوف على رجليه والدبّ على الأرض. فالبنية التحتية إذ تتوفّر، يصبح شرط البناء أكثر يسراً وسهولة. لذا، من الضروري التأسيس للفعل النقدي بفعل قرائي. فنقد نظام الكواكب والمجرات، وإجراء تعديلات عليه، بما يخدم مسيرة الحضارة الإنسانية، لا يتأتّى إلا عقب قراءة لهذا المتن. ونقد النص الديني أو الفلسفي أو الأدبي، لغاية مُواكبة الشرط الزمكاني للإنسان، لا يتأتّى هو الآخر إلا عقب عملية قرائية. وكلما كانت العملية القرائية أعمق وأشمل، كان ثمر العملية النقدية أنضج وألذ.
وكما أن القراءة على مستويين، كذا النقد:
1 - النقد الفردي. وفي هذا المستوى يبرز السؤال الأنطولوجي "لماذا أنا موجود؟" إلى الواجهة الأمامية، ويفرض نفسه على السياق المُتداول، بصفته سؤالاً تأسيسياً في علاقة الذات الفردية بالوجود كاملاً، والدور المُنوط بها تحديداً دون غيرها من بني البشر. والتمهيد لهذا السؤال بعملية قرائية للنص الوجودي –أياً كانت مواضعاته - سيجعل من النقد الفردي لهذا النص بمثابة انتقال من طور المفعول به أو حتى طور المُنفعل به، إلى طور الفاعل في هذا العالَم. فالذات إذ تنقد، فإنها تنفصل عن مشيمة هذا العالَم، وتصبح أدواتها العقلية بمثابة المقص الذي يقص هذه اللُحمة التي تجمعهما سوية، لغاية الابتعاد عن المشهدية، ومعاينتها معاينة فاحصة، وإجراء تعديلات عليها من ثمَّ، بما يخدم المشروع الحضاري الإنساني، ويدفع به قدماً ناحية الأمام.
2 - النقد الجمعي. وإذا كان للذوات الفردية أن تتشارك الهمّ الوجودي عبر مكابدات معرفية وجمالية وأخلاقية، فمن شأن السؤال السابق "لماذا أنا موجود؟" أن يُمايِز بين الذوات إلى حدّ إبداع مُنمنمة الحضارة الإنسانية، بصفتها نُتفاً صغيرة لذواتٍ لا حصر لها. فالذات الفردية إذ تقرأ نصاً بعينه، وتنقده نقداً عقلياً وفقاً لمقتضيات تلك القراءة، فإنها تفسح المجال أمام الذوات الأخرى لقراءة بقية النصوص وإجراء اللازم نقدياً عليها؛ بما يفكّ احتكار المعرفة على ذواتٍ بعينها من جهة، وما يعني قدرةً على تخليقِ مجال حيوي لذوات كثيرة أن تفعل بالوجود بدل أن تنفعل به أو يُفعل بها. فالخبرات النقدية الفردية، إذ تتراكم جنباً إلى جنب، وتأخذ بُعداً أفقياً يسعى إلى الصالح الإنساني، لا بُعداً عمودياً يسعى إلى الاستئثار بالسماء ونواميسها؛ فإنها تُساهم في بلورة نسق جمعي هائل، لديه القدرة على إحداث نقلة نوعية ليس في البِنَى الذهنية فحسب، بل في البِنَى الواقعية أيضاً، بما يعني تحوّل الإنسان –على المستويين الفردي والجمعي - إلى إنسان لديه القدرة على تمثّل "كُنْ" وتحويلها من "كُنْ" خارج الشرط الزماني، إلى "كُنْ" تراكمية انبنائية خاضعة لشرط الاجتهاد "القرائي/ النقدي" وفاعليته الزمكانية.
هكذا، تتشكّل معالم الإنسان الناقد، وتتخلّق بصمته الوجودية، بصفته قادراً على اجتراح جديد في هذا العالَم، بعد أن يكون قد قرأ شيفرته الأساسية ونقد منظومته، وأدخل تعديلات عليها، بطريقة تنقله من مرحلة السلب الوجودي إلى مرحلة الفعل الحضاري. فهو الآن –في مرحلة ما بعد النقد - لم يعد طاهراً، ولم يعد يحتفظ بناموس براءته الأصلية التي تجعل منه كائناً مفعولاً به وجودياً أو منفعلاً بالوجود، بل هو الآن مُدنّس ولا يليق به إلا أن يفعل بالوجود، ويفعّله حضارياً، بما يليق به ككائنٍ جسور وطموح وأساسي في هذا العالَم.