Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    31-May-2019

فَــرَحٌ ميــّت

 الدستور-نايف النوايسة

من بعيد، لاحت له بوابة البنك الزجاجية.. فَرِح.
زجاجها يعكس الشمس وكأنه مرآة..
تتسارع دقات قلبه كلما اقترب.
لا شيء يشي بأي حركة في داخل البنك أو خارجه ما عدا لفتات الحارس الذي يجلس على كرسيه وهو يُدخّن..
اقترب الحاج سالم من البوابة وراح يعاينها..
وقف الحارس وحملق بالحاج سالم.. سيماه لا تدل على شيء يُثير الريبة، وسأله: ماذا تريد يا حج، الدوام انتهى.
تراجع خطوتين.. أحسّ بصعقة تجتاحه.. رمش وحكّ رأسه.. حبات عرق تطل من جبينه وأخريات تزحف خلف أذنه.. بلع ريقه وطوّح بنظره الى عرض الشارع.. كان الظل يمد رواقه والشمس تنزاح وراء العمارات.
ابتعد خطوات عن البنك ليتحرر من نظرات الحارس المُسلّطة عليه..
فتّش الحاج سالم جيوبه فلم يجد إلاّ ورقة الشيك.. عزز علاقته بالحياة بابتسامة سريعة كومضة برق.. ستة آلاف دينار على وجه الشيك، أي فرح هذا!! طوى الورقة وأعادها الى جيبه.
أنْ تكون غريباً في لحظة ما يعني خروجك على المألوف في كل شيء؛ فليس للزمان قيمة ولا للاتجاهات، حتى الاشخاص يتحولون الى أشياء صماء تتحرك ولا تعنيك وجوههم ولا أصواتهم.. للغريب جغرافية خاصة يلوذ في زواياها إلى أن تلوح له شمس الانعتاق. 
سحبه الشارع رغماً عنه ومضى يفتّش عن محل صرافة كان يتردد عليه بين حين وآخر.. ولجه وقدّم الشيك للمحاسب ليصرفه.. ساورته لحظة انتعاش وتوقفت حين طلب المحاسب هويته الشخصية.. أعاد يده الى جيبه ولم يجد أية ورقة.. تساءل في نفسه: أين ذهبت جميعها؟ أعاد المحاسب الشيك إليه.. كان ما يزال يفتش كل ثقب في ثوبه.. أخذ الشيك وأركنه مكانه وهمس: أكيد هي مع كوم الاوراق والنقود التي ألقيت بها الى سائق الشاحنة!!
أعاد نظره إلى المحاسب ثانية وقال بمرارة: لا هوية ولا نقود.. تحسس الشيك في جيبه ففارقته ينابيع الفرح.. اقترب من المحاسب وشرح له الموقف فهزّ هذا رأسه متأسفاً وانصرف الى عمله بحيادية قاتلة.
ألفُ سوط تتناوب لسعاً على قلبه.. انسحب الى الشارع مثل طائر مبلول الريش.. مخذولاً كالطريد يُنقّل خطواته من رصيف إلى آخر.. الشيك بيده ورقة تُثير السخرية.. ينظر إليه تارة وإلى واجهات المحلات تارة أخرى باحثاً عن محلات أخرى للصرافة مع أنه متيقن من إجاباتها.. دخلها جميعاً وبدون فائدة.. تقوده الحيرة مع طغيان الظل إلى ناحية المسجد.. 
وقف وتأمل المآذن وقال: ربي أنزلني مُنزلاً مباركاً إنك خير المُنزلين.. كان في تلك اللحظة مجرد كتلة لحمية يحركها الخوف والحيرة.. لا وزن له ولا قيمة.
بدأ يحس بأن هذه المدينة تخنقه وتنحسر من بين يديه.. وأن جبالها تطارده كجرذ مذعور.. تتفجر نفسه كمداً، ويضحك وهو يهمس: أنا صاحب الأموال والأطيان والشاحنات وتاجر الحبوب(لا قرش مصروف ولا وجه معروف)؟!
يا لحظي العاثر! صرفت السائق ومعه الشاحنة، وبكل غباء أعطيته ما أحمله من نقود وأوراق، كم أنا خائب في هذا التصرف!
ما العمل الآن يا حج سالم؟! تُلح عليه نفسه التي تغلي.. 
هو الآن في صندوق محكم الإغلاق ولا يدري كيف يتخلص منه..
جرجر نفسه صوب المسجد ليصلي العصر.. هدوء وسكينة وظل ظليل ولكنه يغلي من الداخل.. صلّى وأطال المكث وقلّب الأمور على وجوهها.. لا حلّ يلوح.. صداع عنيف يجتاحه..
قام كالمخبول ولا يدري إلى أين يذهب.. قادته قدماه إلى البوابة الرئيسة للمسجد فألقى بجثته المرهقة على مصطبة قريبة تُواجه الشارع وطأطأ رأسه المثقل بالهم والحيرة فانجذب منديله إلى أسفل حتى غطّى نصف وجهه..
دنا منه رجل وألقى في حِجره ديناراً فهاله الأمر، وثارت نفسه دون أن يُحرك ساكناً: أنا شحّاد آخر هذا الوقت؟! توالت الصدقات وكبر المبلغ.. ماذا أفعل يا ناس!؟ أأترك المبلغ وأهرب؟! هدأ قليلاً وهو يرمق الأوراق النقدية من كل الفئات بعينيه ويضحك.. أحس بجوع شديد.. تحركت يده ليخطف النقود.. وقف.. تجمدت يده وراح يلهث ويراقب المارة بحذر شديد.. ماذا لو دنا منه أحد المسؤولين الذين يطاردون المتسولين!؟ يا فضيحة الفضيحة أن أُودع السجن بتهمة التسول!! همّ بالمغادرة.. في ذات الوقت دنا منه رجل رثّ الثياب وهمس في أذنه: أنت تشحد في منطقة اختصاصي!
مسّ الحاج سالم شيء من الكبرياء، يريد ان يدافع عن نفسه فقال: هاك المبلغ كله، أنا لست شحاداً، ولم أجلس هنا للحسنات ولم أطلبها..
وتناول الشيك من جيبه فأراه المتسول وشرح له الموقف، وشرع بالانصراف.. ضحك المتسول فقام أيضاً وهمس بأذن الحاج سالم: لقد أحزنتني عليك، إنك تُثير الشفقة يا رجل..!
تقدّم خطوة وأومأ لأبي سالم ليتبعه فلم يتحرك.. خاف كثيراً وتمتم: ما هذه الورطة؟ دنا منه المتسول وأمسك بطرف سترته وتلّه وكأنه يقود خروفاً حتى إذا صارا في أحد الأزقة وقف المتسول عند سيارة حديثة وفتح بابها فأبدل ملابسه بملابس أنيقة وطلب من الحاج سالم أن يصعد إلى جانبه.. استسلم لهذه الدعوة وكان بإمكانه الهرب والاحتماء بالشرطة، لكنه صعد ولاذ الاثنان بالصمت الذي قطعه صوت عبدالحليم(سوّاح، سوّاح) حين فتح المتسول الراديو.. الحاج أبو سالم وهمس: هذا العكروت كأنه يقصدني ب(سواح).
تخلصت السيارة من قاع المدينة وأزمات السير، ودخلت حيّاً هادئاً راقياً وتوقفت أمام عمارة عالية ونزل المتسول ودعا الحاج سالم لينزل.. دخلا العمارة وقلبه يدق كالطبل من الخوف.. حالة من الذهول تسيطر عليه، كان منحشراً تماماً في نفسه وهو يردد: ربي أخرجني منها.. سيطر صوت المتسول على صمت العمارة: هذا المبنى كله لي وها هي شقتي.. دخلا وواصل: هذه زوجتي وأولادي.. تلصص بعينيه؛ شقة فارهة، وامرأة جميلة وأولاد كأنهم في لُجة الصمت أقمار.. وجميعهم عرّفوا بأنفسهم.. استرخى المتسول على أريكة فاخرة وقال: هم مثلي شحادون ولكل واحد منهم سيارته ومنطقة اختصاصه.. ضحك وما لبث أن وضع سيجاراً في فمه.. 
ينفصل الحاج سالم عن الواقع بين حين وآخر، ولا يدري أهو يحلم أم أصابه مس من الجنون.. بدأ يشك بأنه ما جاء من مكان ما، لكن الحقيقة المرة أنه أتى، أتى إلى هنا، وما هذه ال(هُنا)؟ أحس بصداع عنيف يجتاحه وردد في نفسه (لا أدري، لا أدري).
تلمّس الحاج سالم ورقة الشيك في جيبه للمرة الألف، ضحك المتسول وقال: دعك منه يا رجل فهو ميت، أنت ضيفي الليلة.
رائحة الطعام تُلح عليهما بالتوجه إلى السفرة.. هل أنا في حلم؟ الاصوات تكتنفه من كل جهة.. كيف أكل؟ لا يدري.. لكن خاطراً قفز إلى ذهنه كلما وضع لقمة في فمه بأن ما يأكله هو(طبيخ شحادين). 
مضى معظم الليل وهو غارق في تساؤلاته، لا يدري كيف نام؟! المهم أن صديقه المتسول كان يقف عند سريره ويحاول إيقاظه.. فتح عينيه فوجد كل مضيفيه يلبسون ملابس(الشحادة).. عينا المتسول حادتان وقال: هيّا يا حج وراءنا شغل، لا تنسى الشيك.. ضحك بسخرية..
غادروا جميعهم، كلٌّ في سيارته.. دسّ المتسول عشرين ديناراً في جيب الحاج سالم وهو يوصله إلى محطة الركاب، وقبل ان يودعه قال له مازحاً: حذار الاقتراب من منطقة اختصاصي، نحن أصدقاء..
الحاج سالم ما زال (لا يدري) أهو في حلم أم حقيقة، مضى إلى الحافلة وهو يشد على ورقة الشيك بقوة من شدة الألم.. 
(المزار الجنوبي 23/5/2019)