Tuesday 23rd of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    26-May-2020

لوحة المغربية آسيا جلاب.. من أجل هوية منفتحة ونظام تضامني

 القدس العربي-عز الدين بوركة

جعلت أزمة كورونا العالم بأسره يقف إزاء ضرورة مساءلة نفسه ومؤسساته وأنظمته؛ طبعا ليس كل العالم إلا أنها خلخلت الكثير من يقينياته، وجعلت أنظمة عالمية تعاود النظر في سياساتها. لقد شكلت العولمة محرك هذا العالم الجديد، بانية قناطر وجسورا تخترق الحدود بين القارات، اختراقا بالقسر في الغالب؛ الحدود التي سرعان ما ستنغلق مباشرة بعد اجتياح الفيروس الغامض كل البقاع، كما تنتشر النار في الهشيم، ما جعل العولمة أمام أزمة لا حل لها، أزمة عنوانها الانغلاق التام، وهذا ما تكرهه كل الكراهية… في الوقت عينه نبع وميض «فكرة التضامن»، العودة إلى الآخر والانفتاح عليه، العودة إلى الذات الجماعية، إلى الإنسانية التي تتقاسم خيراتها وخبراتها عابرة لكل الجسور، كأنها تعاود تعبير ريجيس دوبريه «في مديح الحدود»، لكن لا عزاء للانغلاق، الحدود هنا ليست بمعنى الانسداد والتفرقة و«الجدران»، بل الإبقاء على شيء من الهوية والخصوصية، خصوصية البلدان التي ما تفتأ تنفتح في تضامن على جيرانها والعالم، إذ يصل دوبريه لرفض ما سماه «دين العولمة» التي «نفسها تستدعي إقامة الجدران المكهربة والمراقَبَة».. فالحدود تحمل خاصية الانزياح والتغير والتبدل لا الثبات، مؤكدا أن «من لا حدود له لا مستقبل له»؛ فما أحوجنا إلى الخصوصية والانفتاح معا، في تركيب معقد ومزدوج..
لقد خلقت أزمة كورونا تباعدا دوليا، كما خلقت تباعدا جسديا، تباعدا نفسيا اجتماعيا بين أفراد المجتمع نفسه، بل الأسرة عينها. إذ لم نعد كتلةً واحدة، بل ذرات متناثرة ومتنافرة، في الوقت الذي نعد فيه كائنات اجتماعية متلاحمة وهذا ما نلمسه في لوحة الفنانة التشكيلية المغربية آسيا جلاب، التي نحن بصدد قراءتها.. لهذا فلا حل يلوح في الأفق سوى حل التضامن (نظام تضامني) والتآزر والانفتاح مع الحفاظ على الخصوصية والهوية المنفتحة لا الـمُعَوْلمة، إذ «إن العولمة يزعجها كل استثناء ثقافي». وهكذا تُخبرنا تشكيليا هذه الفنانة التي استطاعت أن تراكم تجربة مهمة عبر اشتغال لسنوات عديدة في الحفر عميقا في أساليب عديدة تراوح بين الحداثة والمعاصرة.
تُنشئ آسيا جلاب منظورا في عملها هذا وتربكه، تضع المتلقي أمام خط أفق متلاشٍ.. فكل الخطوط تتجه صوب «قلب» اللوحة، فنقاط التلاقي في ما لانهاية قابعة هناك.. هناك تقع كتلة الحشود التي تبرز باعتبارها الكل غير المحدد، إنها نحن جميعا، فالعمل «بلا عنوان».. لا تمثيل مباشر فيه ولا هيئة محددة لتلك الشخوص الملتحمة والمتقاربة حد الانصهار، مكونة كتلة واحدة، إذ تحضر لمسات انسيابية تعمد إلى جعل الخطوط والألوان بابا مفتوحا على مخيلة «الناظر» الموكول إليه «قراءة» العمل الفني، باعتباره صانعا له بمعية صاحبه الفنان.
يأتي هذا العمل نتاجا عن اشتغال مكثف من قبل الفنانة، على موضوع التضامن الإنساني وتقارب الأفراد في ما بينهم، من أجل إنشاء وحدة إنسانية عابرة لكل المحددات والجدران، داعية إلى هوية عالمية تتقارب فيها الهويات مع الإبقاء على خصوصية كل وحدة منها، أي إحداث نقاط عبور وبوابات مرور إلى الآخر، ومروره وعبوره إلينا، فالآخر مرآة وضرورة لا جحيما. إذ لا يكتمل وجودي إلا بوجود الآخر، بل إن وجودي مشروط بوجود الآخر. وحتى «الموت يمثل صيغة من صيغ تمفصل علاقتنا بالآخر، فأنا لا أموت إلا من الآخر وبواسطته، ولا أموت إلا في الآخر ومن أجله»، يؤكد جاك دريدا، وهذا يصب حتى في حالة الحياة مع الآخر… إذ إن العلاقة القائمة بيني وبين الآخر هي علاقة ذات طابع مركب ومعقد، ومن خلاله تتحدد أبعاد غاية في التعقيد، يتراكب فيها ما هو ديني وما هو اجتماعي، وما هو تاريخي وما هو فكري، وما هو إنساني عابر لكل الجدران، وهذا هو الأهم. لهذا فشخوص جلاب منصهرة في كتلة متباينة.
 
لا بد من هوية إنسانية منفتحة ومتشابكة نوعا ما، إلا أنه لا بد من الإبقاء على الخصوصية المحلية التي تجعل منا متمايزين ومختلفين، لا أشباه بعض كأننا نسخة سيمولاكرية لعالم مثالي لا وجود له.
 
ولأن علاقتنا بالآخر تشوبها هشاشة معينة، فبالتالي لا يقويها إلا تأكيد مسؤوليتنا تجاهه، وبهذا المعنى يتم تحديد إنسانية الإنسان وإتيقيّة أفعاله، بمقدار قدرته على الانفتاح على الآخر وما يستحقه هذا الآخر من كل أنواع المساعدة والتضحية.. إنه الانفتاح الذي يدعونا إليه ليفيناس، إذ لا تكتمل إنسانية الإنسان إلا بنبذ كل الأنانية وميله نحو الغيرية، بكل ما تحمله من معاني التضحية والعطاء بلا مقابل، أي أن تكون علاقتنا بالآخر علاقة قائمة على المحبة المتبادلة والتواصل والاعتراف به، علاقة روحية لا صراع فيها. عماد هذه العلاقة الشعور بآلام الغير والفرح لفرحه، للدخول في إنسانية واحدة نابذة لكل الحروب والمآسي، باسم أي مذهب أو أيديولوجيا مهما كانت، أي أن يغدو «الإنسان مفرطا في إنسانيته» ونقلب كل القيم التي سادت والتي تضع جدرانا خفية للإنسان الذي فينا.
تضعنا إذن آسيا جلاب إزاء هذا الطرح الإنساني العميق، الذي عنوانه البارز «من أجل هوية منفتحة ونظام إنساني تضامني»، عابر لكل الجدران التي خلقتها العولمة.. إذ لا بد من هوية إنسانية منفتحة ومتشابكة نوعا ما، إلا أنه لا بد من الإبقاء على الخصوصية المحلية التي تجعل منا متمايزين ومختلفين، لا أشباه بعض كأننا نسخة سيمولاكرية لعالم مثالي لا وجود له. لهذا فآسيا جلاب اختارت أن تضفي على الهيئات الهلامية، كأنها الهيولى الأولى، لمسات تحيل إلى هويتها المغربية، تلك البقع الحمراء الدالة على الطربوش المغربي، لكنها في الآن ذاته تصير كل القبعات. نوع من الهوية المنفتحة ومركبة.
 
٭ كاتب مغربي