Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    22-Apr-2019

السياسة والكذب في عصر ما بعد الحقيقة*حسن أبو هنية

 الراي-إذا كان الكذب حقيقة، فماهي حقيقة الكذب، وما هو مجال تخققه المطلق؟، ربما قبل زمن الرئيس الأميركي دونالد ترمب كان ثمة شك في كون السياسة مجال الكذب المطلق، لكن ذلك بات من الماضي مع شخص يفيض بالكذب، فقد كشف تحليل أجرته صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، بحسب قاعدة بياناتها «فاكت تشيكر»، أن أكاذيب ترمب عام 2018 وصلت إلى أكثر من 7 آلاف و600 كذبة، بمتوسط أكثر من 15 كذبة في اليوم.

 
يتحدث فيلسوف التفكيكية الفرنسي جاك دريدا في كتاب «تاريخ الكذب»، وهو في الأصل محاضرة ألقاها في الكوليج الدولي للفلسفة بباريس سنة 1997م، تحت عنوان «مسائل المسؤولية ــ الشهود» عن تاريخانية الكذب، كجزء لا يتجزّأ من مشروعه في تفكيك الميتافيزيقا الغربية، التي ادعت دوما انحيازها إلى «الصدق»، معلنا أنه آن الأوان لاستعادة المنسي من هذا التاريخ، الذي هو الوجه المخفي من ذاكرة الميتافيزيقا، ألا وهو تاريخ الكذب، وبؤكد على أنّه لا يوجد تاريخ مستقل للكذب، بل أنّ هذا التاريخ مندمج في تاريخ السياسة. التاريخ السياسي هو تاريخ الكذب بامتياز، وهو المجال الخصب لنمو وتطور الكذب.
 
في نفس الوقت الذي توفي فيه دريدا عام 2004، قدّم الكاتب الأميركي، رالف كييس، في كتابه «عصر ما بعد الحقيقة، الصدق والخداع في الحياة المعاصرة»، رؤيته حول التحولات التي برزت في سلوك الأفراد لناحية تحوّل ما أسماه «سلوك التضليل العفوي» إلى وباء تجسّدت ملامحه جلية في عصر ما بعد الحقيقة، حيث صارت الحدود ضبابية بين الحقيقة والكذب والصدق وخيانة الأمانة والخيال والواقع، بل وأصبح خداع الأخرين تحدياً، لعبة، وتحوّل في النهاية إلى عادة.
 
«هل نعيش اليوم عصر ما بعد الحقيقة؟»، سؤال طرحته مئات الدراسات والمقالات والندوات في سياق الحديث عن تداعيات ظاهرة الكذب والتضليل. لكن اتفاق معجم «أوكسفورد» البريطاني، و«ويبستير» الأميركي في العام 2016، على إضافة مصطلح «ما بعد الحقيقة» باعتباره أحدث المفردات التي راج تداولها كثيراً، حمل النقاش إلى مستوى أعمق، خصوصاً أنه أتى عقب وصول دونالد ترامب إلى السلطة وإحداثه تغييراً جذرياً في طبيعة ومستوى الخطاب السياسي في الولايات المتحدة. الأمر الذي لعب دوراً في تحديد مفهوم «ما بعد الحقيقة» بوصفه الظروف التي تصبح فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في الرأي العام من الشحن العاطفي واللعب على وتر المعتقدات والغرائز الشخصية.
 
شكّل تعريف ما بعد الحقيقة منطلقاً لنقاش جديد خصصته مؤسسة «مهارات» و«أكاديمية دويتشه فيلله»، ضمن مؤتمر «الأخبار الكاذبة وديمومة الإعلام»، والذي تمحور حول التحولات التي أحدثها دونالد ترمب في النظرة إلى الحقيقة والتعامل معها، خصوصاً أن الرجل الذي عبّر في كتابه «فن الصفقة» عن قناعته باللجوء إلى الكذب كوسيلة لإتمام صفقة ما، غيّر المعادلة والموازين بشكل جذري في البيت الأبيض ولدى الطبقة السياسية والأميركيين عموماً، على ما يقول آرون شاروكمان، المدير التنفيذي لمؤسسة «بوليتي فاكت» المعنية بالتحقق من المعلومات والأخبار.
 
يصعب تتبع كذب الرئيس الأميركي دونالد ترمب فقد نقل الكذب إلى مستويات غير مسبوقة، في 22 آذار/مارس الماضي زعم أنه تمكن من القضاء على تنظيم «داعش»، وذلك عقب سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» على آخر جيوب التنظيم في قرية «الباغوز» شرق نهر الفرات، وهو زعم لا تتفق معه تقييمات أركان إدارته في وزارتي الدفاع والخارجية، فضلا عن تقييمات حلفاء الولايات المتحدة المحليين والإقليميين والدوليين، فمع رئيس يميني شعبوي ينعت بـ«الفاشية» تنمحي المسافات بين الحقائق والوقائع والمزاعم والأكاذيب، فالرئيس الأميركي دونالد ترمب أعلن 16 مرة خلال الأشهر الثلاثة التي سبقت معركة «الباغوز»، أن تنظيم الدولة الإسلامية قد هُزم أو سيُهزم خلال أيام قليلة أو ساعات، رغم أن وزارة الدفاع (البنتاغون) لم تُعلن بعد عن هذه الهزيمة، حسب رصد قام به موقع «ذا هيل» الأميركي.
 
لا جدال أن الإعلان عن القضاء على تنظيم «داعش» يقع في إطار المزاعم والأكاذيب في سياق الدعاية السياسية، والنزعة الشعبوية، إذ يتمتع الرئيس الأميركي دونالد ترمب بسجل حافل من الزيف والادعاء والكذب لا يدانيه فيه أحد من الرؤساء، وقد وسمت حملته الانتخابية بمزيج من الزيف والكذب، حيث قال المتحدث باسم البيت الأبيض إبان حقبة الرئيس باراك أوباما، جوش إيرنست، إن «حملة ترمب تقوم على الشعارات الفارغة والكذب والتزييف، حتى إن شعره مزيفا وليس طبيعيا»، وقد استمر ترمب على نهج الكذب والادعاء عقب فوزه بالرئاسة، حيث شهدت كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 25 أيلول/ سبتمبر 2018، أحد أكثر الأكاذيب مدعاة للسخرية والضحك، فبينما كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتحدث عن إنجازات إدارته، قوطع كلامه بالضحك عندما قال إنه: «في أقل من عامين حققت إدارتي أكثر مما حققته أي إدارة أميركية أخرى في تاريخ الولايات المتحدة»، فقاطعته أصوات من ضحك ضجت بها القاعة.
 
في معرض تساؤل دريدا هل هناك عالم دون كذب؟ وجد الإجابة عند هايدغر الذي قال: «بأنّ الكينونة تحمل في داخلها إمكانات ظهور الخداع والكذب»، لكن استنادا لكن استنادا لى ملاحظة دقيقة لأرسطو حين اعتبر الكذّاب ليس من يتوفّر على ملكة الكذب، بل هو الذي يميل إلى الكذب، وتوصل إلى أنّ محدّدات الكذب كفعل هي القصد والوعي والعلم بأهداف الكذب على الآخرين.
 
يؤكد دريدا على أن السياسة هي مجال الكذب بامتياز، مستعينا بوجهة نظر الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت من الكذب السياسي، في مقالها «السياسة والحقيقة» عام 1967، إضافة إلى مقالها «السياسة والكذب» سنة 1971، فهي تقول: «كيف يمكن أن يكون للكذب تاريخ مستقل في حين أنّ التاريخ، والتاريخ السياسي على وجه الخصوص، يزخر، كما يعلم الجميع، بالكذب؟»، وحسب آرندت، فإنّ العصر الذي ننتمي إليه هو عصر الكذب بامتياز، فلم يبلغ الكذب كماله إلا في هذا العصر، إنه عصر انتصار الكذب في السياسة، فالأنظمة الشمولية كما الأنظمة الديموقراطية تعيش على الكذب المطلق. والمقصود بهذا الأخير، أنّ من تجليات الكذب أن يتحول التاريخ ذاته إلى كذبة، حيثيظهر هذا الكذب المطلق في القدرة على التلاعب بالأحداث وبالآراء، وإعادة كتابة التاريخ وخلق الصور، وتشير آرندت إلى خطورة الصورة اليوم التي أُريد لها أن تحلّ محلّ الواقع كليا.
 
في هذا السياق يشير دريدا إلى أنّ هناك من سبق آرندت إلى الأفكار التي طرحتها؛ ففي عام 1943 كتب ألكسندر كواري مقالا مثيرا بعنوان «تأملات في الكذب، بدأه بالقول: «لم يسبق للإنسان أن مارس الكذب بهذا الحجم وبهذه الطريقة المستمرة والمنسقة والوقحة التي يتخذها الكذب أيامنا هذه»، والإنسان المعاصر الذي يقصده كواري هو «الإنسان الشمولي» الغارق في الكذب، والذي يتنفس الكذب ويخضع له. وقدم نموذجا في شخصية هتلر، حيث اعتبر كتابه «كفاحي» كتابا نظريا في الكذب. أي في الكذب الضخم.
 
خلاصة القول أن الكذب يتجسد بصورة مطلقة في المجال السياسي عموما، وخصوصا في المجال السياسي الشمولي والدكتاتوري، وقد تنامى البحث في مجال الكذب منذ تولي دونالد ترامب الرئاسة، فقد تخطى كافة الساسة في هذا المجال، ولا عجب أنه بات يوصف بالفاشية على نطاق واسع وغير مسبوق، فقد جسد ترمب السياسة كمجال للكذب المطلق.