Thursday 18th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    03-Jan-2014

نذير الزعبي يكتب “كليلة ودمنة” من منظور معاصر
الدستور - د. غسان إسماعيل عبد الخالق
سبق لنذير الزعبي أن أصدر في عام 2011 كتابه (أطياف صور / وجدانيات)، والذي يمثل ضربًا من ضروب أدب التوقيعات. ومع أن الكتاب يشتمل على عدد من التوقيعات المفتعلة أو المتكلّفة، إلا أن معظم ما انطوى عليه من لوحات وخطفات وخواطر، يحلّق عاليًا في سماء مفارقة الموقف أو اللغة، بكل ما يمكن أن تشيعانه من نشوة ذهنية أو صورية، علمًا بأن كلّ ما انطوى عليه هذا الكتاب من توقيعات قد نذر على الأرجح لامرأة واحدة. ولم يذهب الجهد الذي بذله نذير الزعبي في هذا الكتاب سدى، لأن كثيرًا من نصوصه مثّل تمرينات عالية المستوى على كتابة القصة القصيرة، سرعان ما تجلّت في مجموعته القصصية (32 فهرنهايت) الصادرة في عام 2013. وقد جاءت في 150 صفحة من القطع الصغير وضمّت 20 قصة قصيرة، تتسم بالتكثيف الصّوري واللّغوي الذي أسهمت التوقيعات المشار إليها سابقًا، في إنضاجه والدفع به إلى حافة التماسك والانسجام الشّديد.
ومن بين العديد من محرّكات القصّ اللافتة التي تستبطن هذه المجموعة، يبرز محرّك القصّ عن الحيوان، بوصفه موضوعًا وبوصفه بطلاً وبوصفه رمزًا. وإذا نظرنا بعين الاعتبار الشديد إلى حقيقة أن 8 قصص من أصل 20 قصة قد حضر الحيوان فيها بقوة، فضلاً عن حضوره بمستويات متفاوته في قصص أخرى، صار بوسعنا القطع بمركزية هذا المحرّك في هذه المجموعة. ومع أن إغراءات الارتداد إلى استعادة كليلة ودمنة لابن المقفع وحيّ بين يقظان لابن طفيل وأيسوب للافانتين وطرزان لإدغار بوروس وماوغلي لروديارد كيلينغ، تبدو وجيهة ومبررة ها هنا، إلا أن المقاربات القصصية الحداثية التي نفّذها نذير الزعبي في هذه المجموعة، تؤكد رغبته الشديدة في أن يربط حكايات حيواناته بذاته وليس بأي ذات سابقة.
ففي قصة (الحوض) التي يفتتح بها نذير الزعبي مجموعته القصصية، ثمة حوار ذكي، نستنتج لاحقًا أنه بين سمكتين تسبحان في حوض للزينة البشرية، وأكثر ما يسترعي انتباهنا في هذه القصة، اتجاه القاص لتوظيف حقيقة النسيان أو (الذاكرة القصيرة) التي تتصف بها الأسماك، فهي لا تتجاوز ثلاث ثوان، ولهذا فإنها تنسى كل المسمّيات بما في ذلك مسمّى (الحوض) الذي تقضي دقائق وساعات عمرها المحدود فيه، لكنها تتذكر كلمة واحدة فقط هي: السجن!
وفي القصة الثانية (نور) التي تضطلع الفراشات بدور البطولة فيها، ثمة لقطات وحكايات جانبية خاطفة عن الطفولة والأصدقاء والحب والزواج والأبناء، لكن القصة تضعنا على حافة الدهشة حينما ندرك في آخر سطر منها، حقيقة أن الولد الذي أصبح كهلاً ثم شيخًا وأقام الدنيا ولم يقعدها جرّاء عشقه للفراش، قد كان أعمى!!
وفي القصة الرابعة (الصندوق) التي تدور من حول قط يرفض الاستكانة لقرار إبعاده، حتى لو كان صاحب هذا القرار هو الفتى الذي محضه كل الحب والرعاية، فيبادر هذا القط إلى الانفلات صارخًا من أسره، بعد أن أوهم الفتى بأنه قد استسلم لقدره تمامًا، ورضي بأن يلقى به في مكان مجهول بعيد جدًا عن المنزل والناس، وهو ما يدخل الفتى في أزمة طاحنة مفادها؛ الرغبة الشديدة في استعادة الاستحواذ على هذا القط ما دام أنه قرر العودة باتجاه الحي والناس، بعد أن فشل في تنفيذ قراره بالاستغناء عنه والإلقاء به هناك .... بعيدًا!
وفي القصة الثامنة (فراء) تقمّص مؤثّر لذئب رضيع أبعده الخوف الشديد عن أمه، حتى إذا ثاب لرشده، راح يبحث عنها، ويناديها ويناجيها، على نحو مؤلم، سرعان ما يقوده إلى ملاقاة حتفه برصاص الصيادين الذين أردوا أمه قبله، لتختتم القصة بمشهد الذئبة القتيلة وقد احتضنت ابنها الذئب القتيل، في صندوق شاحنة الصّيد.
وفي القصة التاسعة (دبٌّ قطبيٌّ وثلاجة) رصد متقن لحوار داخلي طويل يتصاعد في مخيّلة حارس عمارة ينفحه أحد سكان العمارة الأثرياء، ببطاقة لحضور عرض خاص بالدّب القطبي، فيذهب مدفوعًا بولعه الشديد بهذا الحيوان الأسطوري، لكنه سرعان ما يعدل عن إعجابه الشديد به، ليوجّه إعجابه باتجاه مرافقة الدب الجميلة الفاتنة، فيستولي عشقها على قلبه، إلى درجة أنه يفرّ من عمله، ويذهب ليرقب مرافقة الدب وهي تخرج صباحًا من خدرها، بعد أن كادت كلاب العرض تنهشه، وهو ما يدفع بالحارس إلى إعادة البطاقة في ساعة متأخرة من الليل، لساكن العمارة الثري.
وفي قصته الحادية عشرة (الرصاصة الأولى)، ثمة بوح مثخن بتأنيب الضمير ينفِّذه السارد، لتصوير مشاعر الذنب التي تجتاح كهلاً تورّط في إرداء غزالة اعتادت الاستئناس بضوء حديقته. ومما يزيد هذا الكهل تبكيتًا لذاته، أنه لم يكتف بإطلاق الرصاصة الأولى القاتلة، بل إنه وجرّاء تعاظم خوفه من رؤية عيني المقتول المجهول وقد إزدادتا جحوظًا ولمعانًا، يبادر إلى الاجهاز عليه بإطلاق الرصاصة الثانية القاضية.
وفي قصته السابعة عشرة (أبراكادابرا) يقدم الساحر على الادعاء بأن أرنبه القماشي قد مات، أرنبه الذي طالما ظن النظارة المشدوهون أنه أرنب حقيقي من لحم ودم، أرنبه الذي يمثل الصديق الوحيد الذي حظي به في هذه الدنيا، فيستفيض في معاتبته لأنه تركه وحيدًا، ويرجوه أحرّ الرّجاء أن يظل على قيد الحياة، وما ذاك إلا لأن الطبيب قد أعلم الساحر بأنه سيموت بعد شهور، فأراد الساحر أن يظلّ بعده من يبكي عليه!
وفي قصته الثامنة عشرة (كزدورة) ثمة أم تسير في الطريق، مستعرضة بيوت الحي بيتًا بيتًا، وتوصي ابنتها بعدم الاقتراب من هذا البيت أو عدم الاقتراب من ذاك الشخص، لنكتشف في نهاية القصة، أن هذه الأم ما هي إلا قطة تحمل بين فكيها ابنتها التي نفقت، ولم تعد هناك حاجة لتلقينها كل هذه الدروس!
هذه ثمانية قصص إذن، اضطلع بدور البطولة فيها، أسماك وفراشات وقطط وذئاب ودبب قطبية وغزلان وأرانب، كما حضرت أحصنة وسناجب في غيرها من قصص المجموعة لكنها لم تحظ بدور البطولة، وقد تعمدت الإشارة إليها بعناوينها، كما حرصت على تلخيصها بلغتي الشخصية، لتأكيد مدى تعمّق المحرّك الذي أشرت إليه آنفًا، محرّك القصّ عن الحيوان وعلى لسانه، في بادرة قصصية منفردة جدًا. وأحسب أن تفرّدها لا يقتصر على كونها غريبة أو وحيدة، بل يمتد ليشمل العديد من الملامح اللافتة للنظر فعلاً؛ فمن الملاحظ أن مملكة الحيوان لدى نذير الزعبي لم تنحصر في الكائنات البريّة فحسب –مثل الذئاب والغزلان والأرانب- لكنها تتعدّاها إلى الكائنات البحرية مثل الأسماك، والكائنات الجويّة مثل الفراش. وقد استهدف خيال القاص الكائنات المفترِسة (بكسر الراء) مثل الدببة إلى جانب كائنات مفترَسة (بفتح الراء) مثل الغزلان. كما جمع نذير الزعبي في هذه المجموعة بين الكائنات المستألفة مثل القطط والكائنات غير المستألفة مثل الذئاب. بل إنه لم يدّخر وسعًا لاستحضار دمى الكائنات البرية فأسند للأرنب القماشي دورًا معتبرًا.
ما الذي رمى إليه نذير الزعبي من كل هذا؟ هل هو يجرّب حظه في استعادة ذلك الإرث الطويل من قصص الحيوان؟ أم أنه يجرّب حظه في بناء إرث جديد لقصص الحيوان؟ دون مبالغة يمكنني الزعم بأنه يجرّب الوفاء باستحقاق الخيار الثاني، لأن مقارباته لا تحيلنا إلى قصص الأطفال مثلاً –مع تقديرنا البالغ لهذا الضرب من الكتابة القصصية- ولكنها تحيلنا شكلاً ومضمونًا إلى القصص الفلسفي الذي يتخذ من الحيوان ذاتًا وموضوعًا ورمزًا موازيًا لمأساة الوجود البشري. وقد يتساءل متسائل هنا قائلاً: وبماذا افترقت هذه المجموعة إذن عن محكيات كليلة ودمنة وطرزان وماوغلي وحتى عن حي بن يقظان؟ إنه سؤال وجيه دون ريب، والإجابة عنه تتمثل في اعتقادي بأن هذه المحكيات قد صيغت بأسلوب خطابي غنائي احتفالي أولاً، وبأن هذه المحكيات تمور بيقين قاطع لا يحتمل اللّبس إلى درجة السذاجة! لكن محكيات نذير الزعبي صيغت بأسلوب نثري محايد وفردي، وهي مضرَجة بدماء القلق والترقّب والتساؤل والخوف والفجيعة. إنها محكيات تنتمي -ببساطة- إلى حكمة القرن الحادي والعشرين، -حيث الأبيض لم يعد أبيض تمامًا والأسود لم يعد أبيض أيضًا، بل إن الرمادي لم يعد مزيجًا من الاثنين فقط- وليس إلى حكمة كليلة ودمنة... حيث كان الأسد ملك الغابة حقًا، وكان الثعلب صعلوكًا بلا منازع.