Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    13-Mar-2020

صورة «المهمَّش» في رواية «أبناء الوزارة» لحسين العموش

 الدستور-د. عماد الضمور

لم تعجز الرواية العربية عن مجاراة القضايا الاجتماعية التي تعكس صورة الواقع، إذ انبثقت الرواية الاجتماعية بوصفها كتابة فنية قادرة على خلق نوع من الانسجام مع الواقع بعيداً عن ما ينتجه صراع الطبقات الاجتماعية من تناقضات؛ إذ لا بدّ للرواية من استلهام معاناة الواقع بشخوصه، وتحولاته السريعة ورصد جميع التغيّرات الاجتماعية التي تنجم عن ذلك.
في المقابل فإن الروائي يصور العلاقة الهشة التي تربطه بالواقع المأزوم أو تربط شخوصه الروائية بتناقضات المجتمع وتبدل سلوكيات أفراده؛ ما يجعله يلوذ بالمكان بوصفه الهوية والحلم النازف والأحلام المأمولة، فهو لا ينفصل عن قضايا المجتمع، بل إنّ كل رواية ذات صلة بمحيطها، ذلك أن تغيّر القيم والمبادئ الاجتماعية ينعكس جذريّاً على علاقة المبدع بواقعه.
تقوم رواية «أبناء الوزارة» للروائي حسين العموش ـ والصادرة عام 2016م ـ على تصوير معاناة فئة من المجتمع أُصطلح على تسميتهم باللقطاء، وهم ممّن تقوم دور الرعاية الاجتماعية على تنشئتهم ورعايتهم بما يليق بإنسانيتهم. لذلك حضر هذا الفضاء الوجداني الإنساني في إهداء الرواية:» إلى كلّ «لقيط» ويتيم.. فطر قلبه من فرط الحزن.. فنسي في غمرة الأسى أن «الرفيق حيّ لا يموت».. إلى كلّ أصحاب القلوب التي فاضت رفقاً.. فحقت لهم رفقة المصطفى.. إلى كلّ «لقيط» أدخل مراكز وزارة التنمية الاجتماعية..» (الرواية ص 3).
لذلك ينشغل حسين العموش في روايته بتقديم إضاءة كافية للمتلقي عن طبيعة الشخوص وخلفيتها الاجتماعية والثقافية بل وتكوينها النفسي الذي لا ينفصل عن تصرفاتها، كما في كشفه لشخصية سارة بطلة القصة والأنموذج الصارخ على التعنيف الذي يتعرض له اللقطاء في دور الرعاية الاجتماعية بعيداً عن وسائل الإعلام أو حتى أعين المسؤولين :» في أيّ خانة تصنف سارة نفسها، في أيّ قيد تختار لقلبها المفعم بالوجع، في أيّ زنزانة حكمت على ذاتها وهي بعد لم تنلُ مرافعتها الأولى مع الحياة، كانت تسأل ذاتها دائماً سؤال حيرها: من أحبت؟ علي أم غيث؟ وبعد أن فعل بها علي ما فعل هل ما زالت تحبه؟ سؤال بحجم اللقطاء وبحجم المنجرة، وبحجم الدم، وبحجم الذكرى المؤلمة التي تجبرها على إغماض عينيها، وبحجم العذاب الذي فرض عليها من أول صيحة أخرجتها من رحم أم ألقت بها ساعات على مرتفعات أبو نصير، دون أن تكلف خاطرها أن تلقمها شيئاً من حليبها، حتى وجدوها بين الحياة والموت تعاني من الجفاف والبرد مثلما تعاتني من ألم الوحدة والضياع» (الرواية، ص 118 ـ 119).
يبدو الروائي مفكراً ومصلحاً فضلاً عن كونه فناناً يرصد بقلمه الوقائع، ويضيء المشاهد المظلمة من مجتمعه، إذ إنّ اتقانه للعبة السرديّة جعله يسعى إلى الرصد والكشف معاً، واستجلاء التغيّرات الاجتماعية وما يمكن أن يطرأ على الشخوص من تحولات عميقة، فنجده يسعى إلى الانتقال بين الأزمنة بطريقة تخدم رؤيته الفكريّة بعيداً عن سكونية السرد، ممّا جعله يشحنه بروح تأملية تربط بين أحداث الرواية، وحركة الشخوص فيها.
تمتلك الرواية قدرة واضحة على الحضور بالإمكانات التعبيرية، والجمالية الخاصة بها، فضلاً عن قدرتها على إثارة الأسئلة الثاوية في الأعماق وتشخيص محدداتها واستنطاق كوامنها، فكثير ما يتحدث الروائيون عن أمكنة حميمة في رواياتهم تنطلق من البيت الأليف الذي رسخه (باشلار) في كتاباته وصولاً إلى الوطن الذي يوحّد بين القلوب، لكن حسين العموش في روايته « أبناء الوزارة» لم يجد وطناً لشخوصه أجمل من سلة من القش، بل ويجعلها أشد حناناً وسكوناً من كلّ الأمهات، بعدما احتوت هذا اللقيط ووفرت له حماية كفيلة باستمرار حياته: «كان أكثر ما استوقفه هو كلمة» مولود».. المولود كان هو.. والسلة التي وضعته بها أمه الثانية.. كانت رحماً أرحم من كلّ الأمهات.. حين تموت الأمومة في داخلنا تتحول الأرحام إلى سلال وتتحول صلة الرحم إلى « قش» ليس إلا.. وما بين السلة والقش تولد الحكاية» (الرواية ص7).
يمكن تصنيف الرواية ضمن الواقعية الاجتماعية التسجيلية؛ لأنها توثق لأحداث واقعيّة عاشتها الشخوص، ومعاناة قائمة في ظل هيمنة المجتمع، ومعاناة الشخوص المستمرة، وجراحاتهم العميقة، كما يتبدى في شخصية سارة، حيت تتعمق رغبة الروائي في إنتاج وعي مجتمعي نحو هذه الفئة المقموعة فيه.
إنّ الفضاء الإنساني في الرواية ذو أبعاد جماليّة وفنية واضحة، يسلّط العموش من خلاله الضوء على فئة (اللقطاء) الذين يعانون من التهميش المقصود، والتعنيف الصريح في مجتمعاتهم، ممّا جعله يذهب إلى المهمّش ليجعل منه شخصية روائية قادرة على السرد والبوح معاً.
لا ينفصل زمن الرواية عن الماضي الذي عاشته الشخصية، بل إنّ الرواية تنبثق من أخطاء مارستها الشخوص في الماضي ونتج عنها أخطاء استمرت في الحاضر، وعلاوة على ذلك رسمت الرواية آفاق المستقبل المظلم، إذ إنّه في كلّ فصل من فصول الرواية التي تبلغ إحدى وعشرين فصلاً تتحدث الشخصية بحرية وبإحالات فكريّة وتاريخية موثقة، جعلت المتن السرديّ زاخراً بالأحداث المكثفة والمنسوجة بأخطاء الآخرين، وقهرهم للمستضعفين من اللقطاء. كما في تصويره لمعاناة سارة واعتداءات مشرفة دار الرعاية (نيرمين) و الذئب البشري الكامن في شخصية علي، فكانت حكاية الدم عند سارة حكاية أليمة تختصر معاناة اللقطاء في دور الرعاية الاجتماعية: «للدم عند سارة ألف حكاية وحكاية، اسألوها عن دمائها المسفوحة على نشارة الخشب، وأن سكتت اسألوها عن دماء نزفتها من أنفها إثر لكمات تلقتها مرة تلو المرة من أروى مشرفة المركز.. المركز ما غيره.. للدماء عند سارة ألف قصة وقصة، حين أحبت غيث في ريعان العمر المنطفئ مبكرا قال لها: دمنا واحد» (الرواية ص 118). يوثّق حسين العموش معاناة اللقطاء بلغة ساردة لتفاصيل الأحداث،إذ إنّ القصة الإطار في الرواية هي حكاية سارة ومعاناها المستمرة، ممّا سمح بتوالد حكايات جزئية تتصل بالموضوع نفسه داخل الرواية، الأمر الذي وفّر مساحة للوصف عند الروائي وحرية في السرد؛ ليتمكن من تعميق معاناة هذه الفئة المستضعفة عند المتلقي.
لعلّ زمن الرواية هو الزمن الواقعيّ ممّا يعني ضألة الزمن المتخيّل الذي يظهر في أحلام اللقطاء بحياة أفضل، لذلك جاء السرد الاسترجاعي مسيطراً على الرواية بحثاً عن العدالة الاجتماعية التي تضمن للقطاء حياة كريمة، واعترافاً مجتمعيّاً بوجودهم.
وإذا كانت الرواية تبحث عن قيم نبيلة في عالم منحط فإن حسين العموش يسعى جاهداً إلى ترسيخ هذه القيم في روايته، فكانت صورة المهمّش واضحة الأبعاد، بعدما انتصر الروائي لها،، ونجح في تجسيّد لحظات ضعفها، ورصد أنات صدرها مصوراً صراعه المحموم مع واقعه المظلم.
نستمع في الرواية إلى صرخات اللقطاء وسط غيوم سوداء للمجتمع، حيث تنامي الرغبة بالانعتاق من سلطة المجتمع، وهيمنته على رغباتهم وسلبه لأحلامهم ممّا عزز من حالة الصراع في الرواية بين الشخوص، إذ يفقد المهمّش كثيرا من إنسانيته.
لا يبتعد مفهوم المهمّش اللغويّ عن ما يتضمنه الهامش في النص الحكائي، فكلاهما يدل على الغياب والنسيان، وهذا ما نجح حسين العموش بتصويره من خلال بناء روائيّ أوغل في السرد المعمّق للمعاناة، والباحث عن أحلام ضائعة.