Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    20-Feb-2017

في انكشاف غاشية الظلام - ابراهيم العجلوني
 
الراي - قلما يعترف صاحب صنعة لمن يشاركه فيها بفضل او مزية او اقتدار, وذلكم علي بن عيسى الرماني صاحب كتاب «الحدود» الذي قال في البلاغة: «هي ما ادى المعنى الى القلب في أحسن صورة من اللفظ», فهو أحد اشياخ العلم في زمانه, وقد ذكره ابو حيان التوحيدي في «الامتاع والمؤانسة» لم يسلم من تجنيس وتصغير, حتى قال فيه احدهم:
 
«ما رأيت على سنّي وتجوالي, وحسن انصافي لمن صبغ يده بالادب احداً اعرى من الفضائل كلها, ولا اشد ادّعاء لها منه, فإني مع وزني له ونظري اليه واستكثاري منه, لم اقطع فيه برأي حتى قال الكلاميون فيه: «ليس فنّه من الكلام فننا» وقال المنطقيون: «ليس ما يزعم أنه منطق منطقاً عندنا» وقال النحويون: «ليس شأنه في النحو شأننا». ثم قال إنه على ضعفه هذا – بحسب رأيه – قد «خفي امره على عامة من ترى».
 
وعلى أن القياس لا يجوز على ما قيل في علي بن عيسى الرماني هذا بسبب من اختلاف العصور وتراخي الازمنة, الا أن فينا من يقول, اليوم, في بضعهم: إنهم مدفوعون عن اهل الفلسفة والمتكلمين ومدفوعون عن اهل الشعر والادب المرموقين, ومدفوعون عن اهل اللغة المتمكنين, ولكنهم «قد خفي امرهم على عامة من ترى» بسبب من غياب النقد الجاد والذائقة الصناع المرهفة, وبسبب فساد الحياة الادبية جملة, فهم في بلهنية من استشراء هذا الفساد في العباد, وهم في نجوة من ان يوزنوا بقسطاس أو أن يتبين ضعفهم في الناس, وبهذا يلتمس, فيما بينهم وبين الرناني, سبب القياس, وإن كان للرجل فضل لا يدركون من دواعيه شيئاً, ولا يدرجون فيه بقليل أو كثير..
 
ثم إن الامر يتعدى أفراداً بأعيانهم الى أن يكون ظاهرة اجتماعية وداء متفشياً يفتك بالعقول أو يلفتها عن معاييرها فيروج عندها البهرج وتنطلي الزيوف, ويكثر الاغترار, وتعمى عن الحقائق الابصار..
 
إن غاية ما نتوخاه من هذه المقارنة بين ما كان في سالف الزمان وما هو كائن اليوم, وقصارى ما نستفيده منها, واقع, على تعدّد دلالاته واستفاضة ما يفهم منه, تحت ما قيل من أنه: إذا حفظت ما مضى, واعتبرت بما ترى, فقد حذرت ما هو آت. ثم إن الحاضر أشبه بالماضي من الماء بالماء – كما نذكر من ابن خلدون - او كما قال الشاعر:
 
فالدهر آخره شبه بأوله
 
ناس كناس وأيام كأيام..
 
على أن تشاكل احوال الضعفة والصغار وتشابه أحوال المدّعين على اختلاف العصور, وامتداد عروق الفساد في اطباق التاريخ, كل ذلك, وإن كان حقيقة نعتبر بها فإنه بالقطع ليس كل الحقيقة, وإن من تمام النظر أن نأخذ بالحسبان قوى الخير والاصلاح وذخائر العقول المستبصرة, وما لا يزال في الامة من غرائم نهضتها واسباب عزتها, فذلك كله منظور اليه ومعوّل عليه, وسيكون منه ما يحق الحق ويبطل الباطل في كل مستوى وعلى كل صعيد.
 
أمل لا ننفك نتوسم نوره ونستيقن تباشيره, وننتظر ما يكون من رأد ضحاه وطيب مجتناه.. وأول ذلك انكشاف غاشية الظلام عن العقول والافهام.