Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    21-Mar-2018

مشوار الغياب - احمد حسن الزعبي

الراي - تعرفين جنوني..وأعرف أنك تحبّين هذا الجنون..فأنا ابنك الصامت ، الرومنسي الخجول، قليل الكلام ،سريع البكاء،الذي كان يطوف بعينيك متعبداً ولا يبوح ، يحرسك كلوحة نادرةخوفاً من عوامل  العمر أن تأكل ألوانها ،ويخاف غيابك المفاجىء كطفل لا بكبرُ أبداً...

تعرفين جنوني ، واعرف انك تحبين هذا الجنون، فهو يُصغّرُ الموتَ كثيراً ويجعله مجرّد خدش في باطن الكفّ، ويمسح سناج العتمة الطويلة بشمس ابتسامة قصيرة ..تذكرين عندما ماتت شجرة الليمون قبل ثلاثين سنة وزرعت قربها نبتة «مدّيد» ما لبثت ان تسلّقت الساق والأغصان اليابسة لتورق من جديد، سألتني وقتها لم فعلت هذا؟ أجبتك لا أحبّها أن تموت..صحيح أن زهر الليمون لم ينبت وقتها لكن ثمة خضرة جميلة كست يباس الشجرة..
تعرفين جنوني ، وأعرف انك تحبين هذا الجنون..أتخيّلك في مكانك كل ليلة على ذات «الفرشة» وحولك ذات الوسائد ،تبتسمين لشغب الأولاد،لمن جاؤوا إلى الدنيا بعد رحيلك ، تحركين المسبحة بين الأصابع وتصبّين القهوة لأخي العائد، حتى القهوة التي كنت تسكبينها لنا كانت مختلفة ،الهيل بطعم يديك، والبن المغلي له رائحة ثوبك الموشح بدخان الطابون والزيت والأمومة، كل الروزنامات القديمة التي كنت تقطعين أوراقها ما زالت معلّقة ، كتبي المهداة اليك على حالها في النملية،كيس النقود، كرتك الصحّي ، بطاقات المراجعة عند الأطباء ، مطحنة القهوة ، «البنورة» ، كرسي الوضوء ،حتى كيس أدويتك ما زال في نفس الزاوية ، كأنك لم ترحلي أبداً، كأنك في مشوار الغياب ليس الا، وستعودين بعد قليل من العمر .. تعرفين يا غالية ، ما زلت أنام قبيل العصر مثلك ، أضع كفي تحت خدّي مثلك ، أتغطّى بــ»حرامك»العسلي المثقوب من أعلى، ما زالت أنفاسك فيه ،وأنا الوفي لتلك الأنفاس ما حييت، ما زلت انظر إلى النافذة ،صحيح أن «الخوخة» التي تظلل نافذة غرفتك سقطت قبل رحيلك بأيام ، لكن السماء باقية أرى من خلالها عينيك وجبينك وغرّة الشيب من تحت «شنبر» الليل..
تعرفين جنوني ،واعرف انك تحبين هذا الجنون..في رمضان الماضي ، عند الغروب ،كنت أرش الورد الذي يغطي ضريحك، أروي «المارجريت» ، وأنعش قطر الندى ،وامشّط «العطرية» بكفّي ، وأقطر الماء بفيه الزنبق ، وعندما يدخل الناس إلى بيوتهم ليستعدوا للإفطار ، أترك كوباً من الماء البارد بين الورد وعلى مقربة من رأسك، لا لم يكن للعصافير كما كنت ادّعي ، هو لكٍ انتٍ..كنت اتخيلك صائمة مثلنا فأترك لك كوباً بارداً على كتف القبر لتشربيه هنيئاً مريئاً..لا عليك من جنوني ، لكنّني أعرف انك تحبّين هذا الجنون ..
أتكلّم إليك كل نهار ، أقبّل الأحجار، أبوح لك بهمومي وخوفي ، تسمعينني ،لكن التراب يسرق أجوبتك، ولأنني المشتاق اشتمّها من اهتزاز الريحانة فوق الضريح، تعرفين أنني أكون في بعض الوقت متعباً ومطارداً وضعيفا ، لكنني ، لا أسقط ولا استسلم ولا أموت..كلما شعرتِ أن لهاث الخوف أعلى من صوتي في الحديث زرتني في المنام ومنحتني إكسير الشجاعة..بالمناسبة أنا أراك كل يوم بين بروازين ، براوز الصورة في البيت، وبراوز الرخام في المقبرة لكنّك الجميلة في كل الحالات وموناليزا حوران التي لا تغيب..
تعرفين جنوني ،وأعرف انك تحبّين هذا الجنون.. عندما أزورك مع الغروب صدقيني يا غالية أنا لا أمارس طقساً اعتيادياً ، ولا أرد الوفاء بالوفاء ولا العطف بالبرّ..ولا أفكّر بزيادة رصيد حسناتي ولا أفكّر كثيراً بالجنّة، فأنت الجنة كلها فماذا أريد غير الجلوس اليك؟..أنا عندما أزورك عند الغروب عندما ترحل العصافير إلى أعشاشها والآباء إلى بيوتهم والأمهات إلى أطفالهن..أكون مشتاقاً اليك..مشتاقاً وحسب..صدقيني!.
كل عام وأنت كل شيء...