Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    06-Dec-2019

السياب أخرجني من فضاء الثابت إلى فضاء المتحول

 الدستور-د. إبراهيم خليل

في كتاب أنيق صادر بتونس عن الديار للنشر والتوزيع (ط1، 2018) يحاور الشاعر المغربي إدريس علوش الشاعر العراقي الكبير حميد سعيد جامعًا في حواراته المتعددة بعض الشهادات التي أدلى بها كتاب من مثل أحمد المديني، وهو قاص وروائي وناقد ومترجم مغربي صديق للشاعر حميد سعيد، وأخرى للناقد حسن الغرفي، وثالثة لمصطفى الشليح بعنوان تحولات الوجه والأسماء في شعر حميد سعيد. والأخيرتان تتجاوزان الشهادة إلى الدراسة النقدية المطولة، ولعل فيهما ما يشفع للمؤلف، ويسوغ له وصف كتابه الموسوم بعنوان « حميد سعيد حوار شامل وشهادات « بالكتاب النقدي، وهو شيء نبه عليه بكلمة (نقد) البارزة في موقع بيِّن على الغلاف. ولولا هاتان الدراستان لكانت كلمة نقد هذه اسْما لا ينطبق على المسمى.
والواقع أن محاورة شاعر كحميد سعيد، محاورةٌ ليست يسيرة، بل هي مهمة في رأي المؤلف جدُّ عسيرة، فهو شاعرٌ يدرك شأن القصيدة بحواسه، وبذهنه، لا بوصفها نصًا جاهزًا، يستطيع تقديمه للقراء أنى شاء، ومتى أراد، وإنما بوصفها فتنةً مراوغةً، وهاربةً، يحتاج الإمساك بها إلى مغامرة، لا تخلو من مُداورة ومناورة، وإتيانٍ من هذا الشِعْب، يعقبه ذهابٌ من ذلك الدَرْب، مثلما يتحين الطرديُّ من الظبية الشاردة الفرصة السانحة، المواتية، للإمساك بالطريدة. فالقبضُ على الطريدة لا يعني عند حميد انتهاءَ المهمة، فهو لا يفتأ يعاود النظر في القصيدة قبل أن تأخذ طريقها إلى الناشر، فالقارئ. فقلقُ الإبداع لا يخبو إواره، ولا تنطفئُ ناره، برؤية النص مطبوعًا، أومنشورًا في مجلة، أو صحيفة، أو ديوان، بل ينمو هذا القلقُ، ويتضاعف، ولا يفتأ الشاعر يخشى من أن تكون في هذه القصيدة، أو تلك، فلتاتٌ يتسبب بها الطابع، أو الناشر، أو حتى الشاعرُ المبدع. ولكنه – في المجمل، والأغلب- قليلا ما يُحْدِثُ تغييرًا، أو تعديلا- قلَّ أو كثر-  في القصيدة بعد أن ترى النور، وتغدو ملكاً حلالا لقريحة القارئ المتلقي. وما يقوله حميد لمحاوره تحليل طبيعي لعلاقة الشاعر بقصائده، بدءًا بالتوسل لربة الشعر كي تجود عليه بالإلهام، وانتهاءً بالكتابة، والمراجعة، والتنقيح. فالشاعر هو أوَّل قارئ، وأول ناقد للقصيدة، وتبدأ علاقته النقدية بها فور انتهائه من آخر كلمة، ومن آخر نقطة على السطر.
وللسؤال عن مسقط الرأس بابل، أو الحلَّة، سحر ما بعده سحر. ولذا نجد حميدًا يبالغ في تعداد المؤثرات التي تركها فيه، وأولها محيط طفولته الذي يطيب له – في الغالب- الحديثُ عنه، فلعله هو أولُ من فتح له طريق الشعر ، ودفع به دفعًا ليسْلكه، مقبلا على ذلك الطريق إقبالا من غير تعسُّفٍ فيه، ولا إكراه. بدليل أنه حاول أن يكون رياضيًا تارةً، ورسامًا تارة، وموسيقيًا مغنيًا تارةً أخرى، بيد أن كل هذه الغوايات لم تصرفه عن الشعر. فهو- أي الشعر- يستجيب بفعالية أكبر لتلك القوة الغامضة التي يجدها في نفسه للتعبير. وقد لازمه منذُ صغره إحساسٌ بأنه قادرٌ على أن يكون شاعرًا يكتُب قصيدته دون أن يمتَحَ بدلاء الآخرين. وكمْ من خياراتٍ أخْرى واجهت حميدًا إلا أنها لم تستطع بما لديها من إغراءاتٍ أن تقتلعه من حدائق الشعر، وبساتينه، لتغْرسَهُ في تربة أخرى غير تربة القريض. وتبعا لهذا يمكن القول إن حميدا لم يدلف إلى مملكة الشعر، غازيا، أو متطفلا، وإنما هو من مواطنيها الموهوبين الذين لا يستطيعون إلا أن يكون شعراء، شأنهم في ذلك شأن المبرزين المفلقين لا الزعانف المتطفلين..
وفي ردِّه على سؤال عن الشعراء الذين تأثر بهم، وأثروا في شعره، يقول: الشاعر الجواهري هو أوَّلُ هؤلاء، فقد فتنتْني في بادئ الأمر قصيدته « أخي جعفر « في رثاء شقيقه الذي اسْتُشهدَ في مظاهرات بغداد 1948 ومن هؤلاء أيضا الشاعر الرومانسي محمود حسن إسماعيل شاعر الكوخ. و « ممن فُتنتُ بشعرهم أيضًا السيابُ والبياتي ونازك الملائكة وبُلَنْد الحيدري. على أنني فيما بعد اكتشفت الشاعرية الخصبة الخلاقة لدى خليل حاوي « صاحب نهر الرماد، والناي والريح، وبيادر الجوع..وفي هذا التعداد لأسماء من فتن بأشعارهم دلالات، فهو شغوف بالشعر الذي يجمع بين أصالة النظم، وبين التجاوز، وتخطي التقليد، والمحاكاة.
ومن أكثر الأمور استعصاءً على حميد سعيد العثورُ على البداية، أو المطلع. فليس من السهل اليسير على الشاعر أن يجد المطلع المناسِبَ، وهو كالصياد الذي ينتظر أن تتاح له الفرصة كي يلتقط، أو يوقعَ بما يصطاده. إن كان الأمر في البرّ، أو في البحر. وقد تتمَرَّد البداية على حميد سعيد مثلما تروغ الفريسة من القانص. ولكنَّها حين تمتَثلُ طيِّعة سلسة تؤذن بميلاد قصيدة جيدة. وهو لا ينكر أنّ من الشعراء شعراءَ خَصَّتْهم ربَّة الشعر بالتوفيق في المطالع. فأنت تستطيعُ أنْ تعد المتنبي والمعري والخيام وشكسبير من هؤلاء. وردًا على سؤال الشكل والمضمون يرفض حميد سعيد هذا التوصيف للقصيدة، وأنها تتالف من صِنْويْن: هما الشكل والمضمون. فالمبنى لا يختلف عن المعنى، إذْ لو كان المعنى مختلفًا عن مبناه لوجَبَ أن نتصوَّر للمعنى الواحد أكثر منْ مبنىً، وهذا ضربٌ باطلٌ من الظنّ.
وعن النقد يقول حميد سعيد في ردِّهِ على سؤال: الناقد ليسَ معلمًا، ولا شيخًا، مهمته أن يدلَّ الشاعر على ما يجوزُ، وما لا يجوز. فالنقد الذي يلجأ لهذا يفقد قيمته، بابتعاده عن الثوابت. والنقدُ ينبغي له أن يكون قراءة مُنْجِزةً تكشفُ عن أسئلة النصِّ باسْتغواره، وتحليل مادته مثلما يُحلل الكيميائيُّ مادته في المختبر، والصيدليُّ الدواء قبل أن يصفه للمريض. والنصوصُ الشعرية تساعد باسْتنطاقِها على تمدد الأفُق النقدي، وتُغنيه بالكثير من الرؤى، والاستنتاجات، التي تغدو مع الانتشار، والشيوع، جزءًا لا يتجزأ من الخطابِ النقْديّ، ومظهرًا من مظاهر قوة البصر والبصيرة عند الناقد. وفي اعتقادنا أن الشاعر حميدا لا يبتعد عن الواقع عندما يرفض النقد الشائع القائم على التقريظ المجاني، والمجاملات الفجة المفتقرة للتحليل الدقيق، والسبر العميق لأغوار القصيدة.
والسؤال الذي يتردَّدُ في أذهان الكثيرين عن علاقة جودة الشعر بالزمن سؤالٌ لا يجدُهُ الشاعر حميد منطقيًا؛ فالشعر الجيد جيدٌ في كل زمان، وفي كلّ أوان. فالعثور على قصائد رائعة في الشعر القديم كالعثور على قصائد رائعة في الشعر الحديث. صحيحٌ أننا نقولُ، عندما ننتَحِلُ صفة مؤرخي الأدب، إن أعوام الستينات شهدتْ تحولا جذريًا في القصيدة، ولكنَّ هذا لا يعني- وهو صحيحٌ بالطبع- أن الشعر الجيّد وقفٌ، أو حكْرٌ، على تلك الحقبة. علاوةً على أنَّ المسار التجريبي في القصيدة العربية مسارٌ مفتوحٌ لكلّ المحاولات، ولجلّ الاحتمالات. وصراع الأجيال في الشعر، والنثر، شيء طبيعيٌ، ولا يخفي حميد سعيد تفاؤله بمستقبل الشعر العربي الحديث، على الرغم من شيوع الكثير من النماذج الركيكة، ووفرة الشعراء الذين يملأون الميادين دون أن يتقنوا فنَّ الفروسية، وترويض الجياد.
وعن سؤال خاصّ بموقع المتنبي في شعره، وهو سؤال توحي به الإشارات المتكررة له، بالاسْم تارةً، أو ببعض الاقتباسات تارةً أخرى، يقول الشاعر سعيد: « في شعري أسماء أخرى: جرير مثلا، وأبو نواس، وخليل حاوي. أما المتنبي فهو الشاعر الذي لم أنقطع عن قراءته قط. بل وقراءة ما كُتبَ عنه، وعن شعره. ففي كلّ قراءة جديدة أكتشف من شاعريته ما لم أكنْ قد اكتشفته قبلا. ولا تفوته الإشارة – أيضًا- للوركا ، ولبدر شاكر السياب، الذي تزامن اطلاعه على شعره مع بداياته المبكِّرَة، فهو – أي السياب- أخرجني من حصار الثابت إلى فضاءِ المتحوّل المتغير.
يُذكرُ أن مؤلف هذا الكتاب شاعرٌ وكاتبٌ مغربيٌ صدرتْ لهُ 14 مجموعة شعرية و6 كتب أخرى في موضوعات متعددة. وهو عضو في اتحاد كتاب المغرب، وكتابه هذا يتضمن سيرة مختصرة للشاعر الكبير. فقد ولد في بابل عام 1941 ودرس في المستنصرية ببغداد، وشغل بين عامي 1970 و 2003 وظائف سامية عدة، وصدر له نحو15 ديوانا. وجمعت بعض أعماله في مجلدين صدرا بعنوان الأعمال الشعرية. تضاف إلى ذلك إصداراتٌ أخرى في الأدب والفكر والسياسة. وتُرجم بعض شعره للغات، منها: الإنجليزية والفرنسية والروسية والإسبانية والألمانية والصربية، وأنجزت عن شعره رسائل جامعية، ومؤلفات أكاديمية صدرت في تونس، والمغرب، والأردن، وسورية، وإسبانيا، ولبنان، فضلا عن العراق.