Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    09-Apr-2021

مئة وخمسون دينارًا فقط لا غير

 الدستور-ليلى جاسر سلامة

 
منذ الصباح وأنا أحثُّ طفليّ أن يصليّا من أجل أن تتفتح كفُّ السماء وتنثر علينا بعض المال. ضحكت عندما ردّ علي أحدهما وهو منشغل بالألعاب الإلكترونية البائسة: «أمي، بالمال المنثور نريد سيارة جديدة!» تبسّمت ثمّ عطست وشمّتُّ نفسي، لأنّ الصلاة التي كنت أطمح لها غير ذلك. قالتْ لي ابنتي ضاحكة: «عطستك يا ماما أطول وأبطأ عطسة في الدنيا!» تعجبتُ أنها ربما تعرف غينيس للأرقام القياسية. أخذتْ صغيرتي تطرح الأسئلة، يدٌ لي في الطبخ ويدي الأخرى في حصة الرياضيات، سألتني: ثلاثة أعداد متساوية مجموعها مئة وخمسون. عندها سحبت يدي وقلت لها: تعلّمي الحساب بما أنك استطعت حساب عطستي! قهقهتُ ورحتُ للمطبخ.
 
قليت البيض بزيت الزيتون ووضعتُ عليه رشّة فلفل وأخرى ملح، وعلى صحن صغير بضع شرائح الديك الرومي الذي نسيت مذاقه الحقيقي وحبّات زيتون مجوّفة لا أعرف أصلها من فصلها.. مثلما تفعل الأمهات الصبورات سأوفر حصتي على الأقل؛ لأتجنب تحضير الغداء. بقيت طيلة اليوم والأيام السابقة وكل تلك السنوات منذ أن رحلت عن بيت أهلي وأنا أجرّب أن أكون مثل أمي (حساب توفير) تحبس القروش في كل زاوية وبقجة من أجل وضع لقمة في أفواهنا.
 
فاشلة أنا في قلب الجرّة على فمها؛ حاولت تقليد مساعي أمي الحميدة متأخرة ..ومتأخرة جدًا. نظرتْ إليَّ ابنتي المنغمسة في نسخ درس (لقاء أطفال العرب) وسألتني: ماذا يعني الدّيْن؟) ..كيف أفسر لها؟! الأمر الذي خطر ببالي (استعارة المال من البنك وإرجاعه مضاعفًا) ولعنتُ اليهود ...ثمّ مسحت وجهي بكفيّ كأنني أبوح لهاتين الكفين بالهمّ والفقر الذي يجدّف بيتي ويجرفنا كأخشاب اقتلعتها عاصفة هوجاء ورمتها في جوف النهر الذي يسرق معه كل عذب إلى المحيط ملاذه الأخير. رسمت لي ابنتي قبلة في الهواء ثمّ سرق منّا اللحظة رنين الهاتف فلهثت نحوه...سألتُ نفسي: «يا ترى ماذا تريد؟» ..
 
- صباح الخير جارتي!
 
- صباح النور. كيف حالك؟
 
- من الله بخير، ومن عباده لا حول ولا قوّة إلا بالله!
 
- الحمدلله على كل شي. كنت أريد أن أخبرك بأنني سأرفع السور وأنوي تغيير تصميمه، ولكن من جهة بيتك سأمسح الجدار فقط.
 
- آخ يا جارتي..من حقك، حدود بيتك وأنت حرّة فيها، ولكن تجملين بيتك وتتركيني أحدّق ببشاعة الأسمنت. على الأقل أرجو طلاءه بالأبيض.
 
انتهت المحادثة وبدا الطرق والتكسير واشتد الغبار. قلت لا بأس، فالجار للجار.
 
أخذت أتميّع كالدم المغلي في أطراف المنزل، لن أحظى بقيلولة الظهر لفترة لا تقل عن شهر حتى يكتمل السور وما يلحقه من أعمال تجديد أخرى في بيت الجيران.
 
مررت الإعلان لكل الحبايب: (معلمة أطفال تطرح أفكار معرفية نوعية..لا التزام بالمنهج. للتواصل زهيرة عبّود) اسمي يكفي أن يجلب لي أولاد الذوات ليتعلّموا القافية والهمزة المتطرفة والنعت والأنماط ...الخ علي يدي.
 
ارتخى جسدي على الكنبة حتى غُصْتُ فيها، فكرت بحالة البيت؛ أثاثي القديم، مكيف الهواء عجوز مصابٌ بالربو وبالكاد يتنفس، تأملت المساحة التي أجلس فيها ..كل شيء حولي عتيق ..متى يمكنني أن أغير عالمي البائس؟ الستائر مثقلة بالغبار، ينبعث من السجادة الأفغانية التي تحسدني عليها الجارات رائحة غريبة لا تطاق، مقاعد الحديقة صدئة ومقاعد المرحاض متفتتة من حر الصيف والرطوبة فتخطر الصين ببالي فالذنب ذنبها، الجدران مزينة بخرابيش ورسومات أطفالي وبقع سمنة ومعجون الطماطم وأثار دم سحالي تسللت إلى منزلي فضربتها بالنعال. في الواقع أشعر بالخجل أن أنعت منزلي بالخردة. أشكر الله على أنني ما زلت أمتلك نعمة الشعور! كانت مطارق العمّال تنبّه أعصابي وتشدُّ النعاس من أذنيه فيما الأحجار المتكسّرة تقذف ساحة بيتي ومزروعاتي. يخطر ببالي أن أجوّع أولادي وزوجي لأوفر المال وأشتري طقمًا جديدًا، ولذا يجب أن أبدأ بتوفير مئة وخمسين دينارًا على الأقل، أنا الآن بحاجة لهذا المبلغ ولكن لمَ علي الانتظار ثلاثة أشهر لتجميعه، يمكنني أن أتصرّف بطريقة ذكية فأصحابي كثرْ ومن كثرتهم اظنني سأقدر أن أجمع مبلغًا أرتب فيه حياتي البائسة.
 
في هاتفي أسماء كثيرة، أرسلت لكل من هبّ ودبّ، فقبل أشهر كنت أجلس مع سميرة نضحك ونثرثر في سهرة خارقة، وأمّا حمدة فلم تقصّر أبدًا في كل مشوار تشتري لأطفالي المقرمشات والمثلجات وتصطحبني معها في زيارات أصدقائها الذين يكرههم زوجها، وروبي الحلوة المزيونة تستحلفني بأنني إذا احتجت شيئًا ألّا يردني لساني، وماجدة التي ما شاء الله عليها مرزوقة وحظها يفلق الحجر دائمًا تعطيني ملابس أطفالها التي ما عادت مناسبة لهم، ثم عزيزة أعزّها الله وباركها فهي تحضر لي كيلو موز أو علبتين من شكولاتة جالكسي كلما زارتني، حقًّا أنا محظوظة جدًا بكل هؤلاء الطيبيين في حياتي وأنا ممتنّة جدًا لوجودهم. وبما أنّ الناس رحماء بينهم فإنّ كل أصحابي المقربين وغير المقربين لن يترددوا في مساعدتي بمبلغ صغير، مئة وخمسون دينارًا هي ليست سوى فتافيت لا تساوي شيئًا ولا قيمة لها. أخذت أفرز الأصحاب في ثلاث قوائم، قائمة بأسماء هؤلاء المقتدرين الذين لن يترددوا بمساعدتي وربما سيقولون لي مثلًا اعتبري المبلغ هدية غير ذات قيمة للأولاد، والقائمة الثانية بالأصحاب الذين انقطعت عنهم بضعة أيام والقائمة الأخيرة لأصحاب أصبحت حانقة عليهم وغاضبة منهم بسبب قلّة التواصل والاهتمام. وهكذا أرسلت رسالة لكل هؤلاء بأنني في ضائقة مالية حيث لا يمكنني أن أقول صراحة أنني بحاجة للمال لأرتب بيتي وأجدد حياتي وأزيح البؤس والتعاسة المحيطة بي، لأنني بنظرهم حالي عال العال. أمطرتني الردود كصبّ من الرب، هل أفتح الرسائل ..لا بل أتأنّى قليلًا كي لا أظهر بأنني مستميتة بانتظار زكاة أصحابي ومعارفي. عبأتُ رئتي بالهواء وتشبّث بصري بالرسائل التي بدت كالحسّابة في البورصة..هذا اسم من تلك القائمة وآخر من الأولى واسم من الميؤوس منها...ارتبكت أنفاسي وسقطت توقعاتي بين الخردة المحيطة بي...يبدو أنّ كذبتي أخطأت ترتيب القوائم والأسماء أخذتْ توزّع نفسها على راحتها وتختار قائمتها المفضّلة...ههههههه، الحق أنّ لطيفة فاجأتني برفع إبهامها وعلى عجالة، ثمّ دلال بعثت صورة أسنانها المخلوعة مع صورة حوالة ما مؤرّخة ...وأمّا صديقي حسّان المولع بقصص المُطلّقات فأرسل لي تصميم غلاف كتابه المنوي نشره قريبًا مع أنّ مخزونه اللغوي بسيط جدًا ..كانت نجيبة صديقتي التي محتني من ذاكرتها رأت رسالتي وتأخرت في الرد وفيما يبدو أنها مترددة.. فكرت أو ربما استشارت زوجها، كعادتها تصرف غير لطيف وماذا اتوقع منها سوى أن تهمل الرسالة وتدّعي بعد فترة أن أحد ابنائها هو من كان يعبث بالهاتف أو من الممكن أنّها مثلي عطستْ وهي تنظر للهاتف ومن قوة عطستها ضغطت بالخطأ على زر سموه ما شئتم فراحت الرسالة مع سابقاتها ولاحقًا ستقول مثلًا أنّه ليس لديها أدنى فكرة بما أمرُّ به من ضائقة. مرّ الوقت مثل القطار الصيني الذي يتحرّك بسرعة الضوء وقرأت خبرًا عنه للتو ..الذي لو عطست فيه سيصل أسرع من عطستي.