Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    29-Mar-2019

السَّرد الرّسمي والسَّرد غيرُ الرّسمي

 الدستور- نادية هناوي/ العراق

ليست المسافة بين ما هو واقعي وتخييلي كبيرة في السرد العربي القديم، والسبب طبيعة المعارف التي توصل إليها العرب ونوعية الأفكار التي حملوها، بيد أن هذه المسافة في السرديات الميثولوجية قد تتقلص إلى حدود دنيا، مقتصرة في تداولها على فئة أو طائفة يجمعها فكر عقائدي واحد، وقد يبدو هذا غير منطقي، إذ كيف يكون المحتوى دينيًا بينما يكون البناء الشكلي تخييليا، والمسافة بينهما متقلصة وضيقة ؟!.
إن المفارقة الناجمة عن هذا التقلص فيما بين التخييلي والواقعي طبيعية وأيضا ضرورية كاستهداف فني يؤدي إلى تحقيق مرام فكرية ومبتغيات ثقافية. فالكاتب الذي يريد تأكيد جدوى فكرة فقهية معينة أو إثبات دعوى اعتقادية ما، قد يلجأ إلى الأدب وفنونه المختلفة لعله يجد في واحد منها ما يصلح أن يكون وسيلة يطوعها لأفكاره بطريقة فنية. ومن هذه الفنون السرد الذي به تترتب الأحداث على وفق تسلسل منطقي، بشخصيات مستلة من واقع معيش، تترابط مع بعضها بعضا في تحبيك لغوي ذي خصائص كلامية ضمن زمكانية محددة ليكون النسيج النهائي نسيجا قصصيا محكيا بطريقتين : شفاهية تقنع السامع وتأخذ بتلابيب وعيه، أو كتابية تدهش القارئ وتدفعه الى المواصلة والانشداد للمدونة القصصية. 
وفي حال كان مستوى التحبيك كتابيًا فعندها ستتوفر للمؤلف ممكنات تعبيرية مختلفة، تحقق له التوصيل والتأثير المطلوبين. ويمكن توزيع تلك الممكنات بين نوعين من السرد: سرد رسمي (معترف به لالتزامه بالمواضعات والأعراف الكتابية) وسرد غير رسمي (لا يعترف بالمواضعات ومنه السرد الشعبي والسرد الديني والسرد الميثولوجي)، وغالبا ما يكون المرتجى توصيله من السرد غير الرسمي عبارة عن غايات فكرية محضة.
وكان ابن الجوزي في مؤلفه (كتاب القصاص والمذكرين) قد ذمَّ القص لأسباب ستة أهمها «أن القصص لأخبار المتقدمين تندر صحته» وهذا يعني أنه من أوائل المشكيين في كتابة التاريخ،  وندرة الصحة تعني كثرة الافتراء والاختلاق، ولهذا فضّل عليه التذكير، بيد أنه في باب (ما لا يقص إلا بإذن الأمير) أشار إلى تحديد آخر يجعل القص مرهونا بأخذ الإذن من السلطة، بمعنى أن القص إذا لم يأخذ الإذن فهو اختيال ومراءاة، وبهذا يمالئ ابن الجوزي الرؤية الرسمية للسلطة، وبموجب هذه الرؤية يصبح القاص غير المأذون له بالسرد في ورطة سياسية.
إن خشية السلطة/ المؤسسة من القصِّ هو خشيتها من تزعزع سيادتها وانتزاع القوة من بين يديها، ولهذا قُنن القص بشروط وحُدد بقواعد هي بمثابة شروط وتأسيسات ينبغي على القاص أن يخضع لها. وهذا ما حجِّم فعل المخيال وموضع مداه في إطار محدود. ولو حصل أن المخيال صار متاحا بلا تقنينات وتقعيدات لتساوى السرد في شقيه الرسمي وغير الرسمي، وعندئذ ستزول السيادة وتتهاوى الهيمنة وتفقد السلطة اعتدادها وغلبتها، وهذا ما لا ينبغي بالنسبة لها أن يقع بتاتا. 
إن خطورة السرد متأتية من أنه هو الحياة في عموميتها، وبه تتحقق هوية الإنسان تبعا للكيفية التي يفكر فيها، ومن هنا يغدو ترك الحبل (المخيال) للسارد على الغارب (حرا بلا تقنين) هو أس الانهيار في التمركز المؤسساتي على مختلف الصعد الاجتماعية والسياسية والثقافية. وحريٌ بنا أن نتساءل ما الذي يسببه تحجيم فعل المخيال على عملية السرد ؟ وهل التقنين والتقعيد هو سبب التفاوت في السرديات ؟ وهل هذا التفاوت هو اعتراف غير مباشر بوجود نوع من السرد يخالف المعتاد القصصي في سرديات أخرى ؟ 
معلوم أن المجتمع العربي مجتمع طبقاتي، ينقسم إلى قسمين: الأول مجتمع متعال ونخبوي مهيمن على السطح، تضمن له السلطة المتنفذة التسيد، بأدواتها المادية وممنهجات إيديولوجيتها الشمولية. والثاني مجتمع طرفي وهامشي هو تابع للمجتمع الفوقي محكوم عليه أن يكون في الظل منزويا وخفيا، ولهذا عادة ما يكون مزاجيا معارضا السلطة، والسلطة عادة ما تكون متعارضة معه، ساعية إلى إحكام قبضتها عليه خوفا من أن يمرق فعل مضاد منه، يودي بهيبتها ويفلت زمام الهيمنة من يديها. وهذه الصورة البينية بين المجتمعين تنعكس على واقع الثقافة العربية الإسلامية عموما والأدب العربي منها تحديدًا، إذ لا يوجد أي تمظهر من تمظهرات الثقافة إلا وهو منشطر إلى عام رسمي وخاص غير رسمي، وهذا ما نجده في أدبنا العربي، الذي هو نوعان: رسمي تمثله الطبقة المتعالية بنخبوية إبداعية. وأدب غير رسمي، تمثله الطبقات المثقفة الطرفية المندمجة بالمجموع الشعبيّ العام، وليس لهذا الأدب أن يتعادل أو يتساوى مع الأدب الأول، والسبب هي المؤسسة الأبوية التي منحت الشرعية لأحدهما وحجبتها عن الآخر.
وعلى الرغم من أن البينية على المستوى المجتمعي مقتنع بها وطبيعية، حتى بدت معتادة لطول العهود التي ساعدت على ترسيخ الفارق بين الطّبقات، بيد أن الأمر على المستوى الثقافي والأدبي مختلف تماما، ولنخصص حديثنا في السرد فنقول إن السرديات غير الرسمية لا تقر بالبينية التي تفصلها عن السرد الرسمي. ولهذا نجدها حية ودوامية، تتحايل على مختلف الصعوبات حافظة لها مكانا في ذاكرة المجموع العام، ووسيلتها التي بها تعلن عن عدم الإقرار واللااذعان للبينية هو المخيال الذي توظفه بطريقة حرة بلا تقييدات ولا محظورات، بينما هذا المخيال في السرديات الرسمية مقولب ومحدد ترصينا وتوطينا بمجموعة مواضعات متعارف عليها لا تجوز مخالفتها أو اختراق بنودها. وهذه المواضعات هي التي جعلت التقولب في السرديات الرسمية ملمحا من ملامح الهيمنة الفنية عبر العصور سواء على مستوى الأنواع السردية أو على مستوى الصياغات الفنية والأغراض الموضوعية . 
وعلى الرغم من ذلك، ظلت السرديات غير الرسمية تواصل عدم إقرارها بالبينية كتعبير ثقافي يعكس الرغبة الملحة لديها في التساوي مركزيا مع السرد الرسمي من خلال استثمار المخيال إلى أقصى حدوده أو تطويعه تطويعا غير معهود.
صحيح أن المخيال الذي لا يطاوع المؤسسة الأبوية هو أكثر امتدادا وسعة من المخيال الذي يطاوع تلك المنظومة، لكنه بالمقابل بلا سيادة أو غلبة، والسبب أن العقلية العربية عقلية معيارية مقننة بالقواعد وملتزمة بالمقاييس، وبها تزن الجماليات معطية الاعتبار لهذا السرد وغير معترفة بذاك السرد وهكذا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : إذا كان السرد غير الرسمي( الديني والشعبي) بلا تحييدات أو تموضعات، فكيف استطاع إذن بعدم رسميته هذه، المواصلة والاستمرار؟ ليس يسيرا تحديد الأسباب التي ضمنت لهذا السرد الحياة، لكن سعة المخيال وتحرره من أي مواضعات هي التي سمحت له بابتداع صيغ غير معتادة توفر له الاحتدام والتأزم، واصلةً به إلى التحبيك.