Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    03-Jan-2020

غرفة العمليات

 الدستور-ماماس أمرير

حين سحبتْ ابنتي سديم يدها من يدي، وأنا أدخل غرفة العمليات، أحسست بقلق شديد وكأنني طفلة انتزعوها من حضن أمها! أنظر لابنتي في عجز تام وهي تبتسم وتُطمئنني... كان الموت أيضا موضوعا حيوياً باستمرار، ومطرقة تكسر كل أمل في أن أرتب أفكاري طيلة هذه المدة التي سبقت موعد العملية، خوفي على بناتي، وحده الإحساس الذي يزلزل كياني في كل ملمّة.
أول شيء لفت انتباهي بغرفة العمليات، مساحتها الواسعة جدا، ولونها الأزرق السماوي.... ذكرتني بالمسلخ!
 سخرت من المقارنة!
 وأرجعتها لخوفي الشديد من الألم والموت.
مساحتها تقترب من مساحة ملعب لكرة الطائرة أو كرة اليد ...لكن الفرق مخيف ومقلق، فرائحتها تثير قلقا فريداً...
 كل الصخب والعنف الوجودي، الذي أفسد حياتي يحضرني الآن!
تذكرت فولكنر وصخبه و روايته التي تعج بالألم حيث يختلط الزمن بالعنف، فلا تميز الماضي من الحاضر ولا تثق في المستقبل، كل شيء غير قابل للاستعاب؟!
سخرتُ من أفكاري في هذه اللحظة، لكن شريطاً من الذكريات يحتل رأسي بعنف. يختلط الماضي بالحاضر، ذكريات تمر بتوتر سريع: صوت أبي وهو يعبر لي عن رغبته في رؤيتي قبل موته... طفولتي، غربتي، عائلتي، نكباتي، وجعي الذي يتفاقم، أفكار وذكريات عصية عن النسيان، ربما الأمر يتجاوز ظرفا طارئا كهذا، إنه يتعلق بجحيم الفرد، غربته، عجزه وعبث قدره.
أجهزة، طاولات، ومعدات تغطي مساحة الغرفة، وعدد كبير من الممرضين والأطباء يتحركون بشكل يثير القلق. حركاتهم تذكرني بخلية النحل.
كل واحد يعرف دوره، وكل واحد يوجه لي سؤالا يتعلق بمهمته، من طبيب التخدير إلى آخر ممرضة.
يتوسط الغرفة، سرير مغلف بجلد أسود، عليه شرشف، لونه زيتي، حوله أجهزة خاصة للعناية بالمريض.
إن هذا يثير هلعي؟
فوقه يتدلى كشاف إضاءة كبير يزيد من رهبة المكان أكثر...
طلبو مني: أن أنتقل من السرير المتحرك إلى السرير -الخاص بالعمليات- فانزلقت إليه، بمساعدتهم، وكأنني مادة هلامية، لم أكن أختلف كثيرا عن الزمن المنهار في لوحة دالي...
إحدى النتائج المؤلمة للحياة أن تصبح تاريخا ممتلئا بالطعنات والإنكسارات والانهيارات وابتسامتك لا تعني إلا شيئا واحدا: عجزك، وضعفك، وكل هذه الوسائل المتداعية مجرد آلة حادة من القلق والتشبت بما يمكن أن يتحول لأمل جدير بمجازفة مروعة.
قلبي ينبض بسرعة، ضغطي يرتفع، ووجهي يبتسم وكأنني أؤكد لهم: أنا لست بخائفة! الأطباء والممرضون من حولي يراقبون ضغطي الذي يزداد ارتفاعا.
 حين حدثتني الطبيبة الأجنبية بعربية مكسرة، أحسست ببعض الهدوء، لكن هذا لم يُزل خوفي تماما.
أتطلع إليهم وهم يرتبون حول السرير المعدات الخاصة بعمليتي... هذا زاد من هلعي أكثر، تحدثوا معي كثيرا أثناء وضع الإبر، والملاقط الخاصة بنبضات القلب وجهاز قياس الضغط في يدي... يدي تؤلمني كثيرا، وكأنّ قضيبا حادا ينغرس في عروقي.
لم يكن ألم الإبر ذا شأن، قياسا بالألم المتراكم بداخلي...
كنت أستمع بقلق ورهبة وهلع شديد، لنبضات قلبي على الجهاز وهي تُصدر رنينا سريعا، وداخل صدري كان قلبي كقلب عصفور صغير يرتجف... لم أكن أتوقع أنني سأصاب بنوبة خوف كهذه.... لكنني حاولت تهدئة نفسي، وإقناعها أن عمليتي بسيطة. لكن فكرتي عن التخدير كانت سيئة، سيئة جدا...!
حاول الطاقم الطبي مساعدتي حين أكالوا لي العديد من الأسئلة، تخص حياتي وعائلتي بشيء من الحميمية، لتهدئتي.
لكن رأسي ما زال يمتلئ بالأفكار العنيفة، رغم أنّ أناندا ديفي كانت معي قبل دخولي إلى غرفة العمليات...! حرصت أن يكون كتابها رفيقا في غرفة الانتظار، كي أقنع نفسي برباطة جأشي وبأنني لا أحفل بكل ما يجري؟ وأنني أقرأ في هذه اللحظة، كأي لحظة عادية في الحياة، لكن ما يجري لا يختلف كثيرا عما بداخلي، حتى أسلوب الطاقم الطبي الذي يحدثني بطريقة سريعة وغير متوقعة... قبل الإجابة على سؤال، يُطرح السؤال الذي بعده! وهكذا... كل شيء يستفز ما بداخلي من أصوات وصخب.
إنها الفوضى الذهنية تجتاحني الآن....
تذكرت مقطع ماياكوفسكي الذي يرتب الثورة بوجه هادئ وروح مبعثرة... وسيوران هذا الهادئ العنيف الذي يسخر من كل شيء بمرارة مثل مرارتي الآن... تذكرت أمي المريضة  وتذكرت أيضا أنني لم أكتب كل شيء، ما زال بداخلي كون من الألم والحزن والغبطة المحملة بأطنان من الأحلام والرغبات الصغيرة...
وأنا أنظر بشيء من الامتنان إلى الممرضات والطاقم الطبي، أكتشف بسخرية مريرة، داخلي المهترئ. 
يبدو أن فكرة إجراء عملية، مسألة تثير زخما حاداً من المشاعر والأفكار بداخلي.
تساءلت وسط هذا الكم من الهذيان: أين الشجاعة؟
لكن الحياة كانت ضئيلة في هذه اللحظة، ضئيلة جدا...!
خلال هذا الصخب والتوتر، أخبرتني الطبيبة: بأنني سأغفو بعد قليل. وعلي أن أصبح هادئة حتى أساعدهم، فالأمر بسيط جدا.
أغمضت عينيّ وابتسمت... وقررتُ أن لا أفرِّط في ابتسامتي هذه، بعد الآن.
فتحت عينيّ على صوت الممرضة وهي تقول لي: حمد الله ع السلامة .
ابتسمت بامتنان كبير، وطلبتُ منها أن تُناولني نظارتي.