Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    24-Jan-2020

الزرقاء.. محطات ثقافية

 الدستور-الشّاعر محمد ضمرة.. من أقمار بيروت إلى ممرات الأمل*

ناصر الريماوي
بعد خمسة وثلاثين عاما، كان مقدراً للظلّ أن يتسيد أرض الشرفة العليا، المطلة على قمم البيوت الراكدة في الأفق البعيد من مدينة «الزرقاء»، ليسعى النسيم العليل ويغمرالحيّ قبل أوانه المعتاد بكثير.
وأن تندلع أصوات «الأراجيل» ورائحة التبغ في الجوار فجأة، وقبل موعدها المألوف بساعات، وأن يحلق باتجاهي سرب فراشات ملوّنة، لم أعهد وجوده في الجوار، أفلت من قبضة الحديقة السفلية، ليحوم حول الجمر ويصافح الأثير.
 كل هذا وأكثر، وأنا أمدّ يدي في نشوة نادرة، نحو هاتفي المحمول، وأطالع: (الشّاعر «محمد ضمرة» يوقع روايته الأولى «ممرات الأمل» في مقر نادي أسرة القلم).
كان هذا بالتحديد عصر ذلك النهارالقائظ، من صيف عام 2017.
لم أصدق بأن هذه الظواهر الكونية العابرة، كانت تمهّد للقاء مؤجل، بعد كل هذه السنين، أما السؤال الذي تبادر إلى ذهني على الفور: بماذا سأبرر له ما جرى منّي، وكيف؟
وهل لا زال يذكر ذلك التلميذ المرتبك في المرحلة الثانوية، وهو يتجرّأ على هيبة ديوانه القديم، «أقمار بيروت»، بشتى الملاحظات، ويعده بها، ثم يفرّ من أمامه لثلاثة عقود ونصف العقد، دون أن يفي بوعده؟
***
في ثانوية «المغيرة بن شعبة» بالزرقاء.. انتشر الخبر سريعا، وتناقله التلاميذ في الصفوف المدرسية العليا بحذر بالغ، فيما تأرجح البعض منهم بين الرجاء حول ما يشاع وبين الشروع الفعلي في التثبّت من صحّة الأمر، رغم تأكيد الأغلبية الغامضة صحته للجميع.
عبر إلى غرفة الفصل الدراسي أكثرنا إهمالا للدروس وجنوحا للفرار الطوعي، وهو يلوح بورقة موقعة، قال بأنها تضع حداً لكل شيء، وبأن المدير الجديد للمدرسة عازم بالفعل على تنفيذ نهجه التربوي الحديث بيننا.
ثم صاح بنشوة غامرة: صار يحق لنا الآن في هذه المدرسة أن نفرّ في العلن، وبرؤوس مرفوعة، بدل التسلل خلسة والقفز عن أسوارها العالية، دون كرامة.
لم يكن يعنيني من الأمر، سوى الاسم.. وكأنني كنتُ بانتظاره، أو على موعد معه، الأستاذ «محمد ضمرة».. الشّاعر، ورحت أستعيد ديوانه الشّعري، «أقمار بيروت»، دون أن أتذكر أين أخفيته.
لكن.. ماذا لو كان هناك التباس ما، ولم يكن هو الشّاعر؟
سارع أكثر التلاميذ تصيداً للأقاويل والثرثرة إلى التأكيد بأنه شاعر.. قالها وهو يستدير ببطء وثقة نحوي، كشاحنة محملة بالأتربة، وينطق كفيلسوف: بلى فهذا النهج الحداثي في التربية لا يصدر إلا عن شاعر.
أوصيت أحد الزملاء إلى ابتذال مبرر منطقي كي أحظى بلقاء الشّاعر، حدّق الزميل ملياً، فسارعت إلى التوضيح: أقصد مدير المدرسة.
ترددت أمام غرفة الإدارة المدرسية بالدخول، وكان يصل إلى سمعي أحاديث متشعبة تتجاذبها الهيئة التدريسية أو من تواجد منهم هناك تلك اللحظة، دون أن أرى المدير أو أميّز صوته.
قلت في نفسي.. للشعراء هيبتهم، يصنعونها بأنفسهم لكثرة ما يرون أسماءهم وهي تذيل القصائد في الصحف.
انبرى زميلي الذي لا يعرف شيئاً عن ملاحق الثقافة الأسبوعية وعن تردد اسم الشّاعر فيها وقال متأففا: ما لنا وللشعراء.. لديك ذريعة بالمغادرة، أدخل ووقعها من المدير وحسب.
***
كان أكثر إشراقاً وجديّة، من صور «البورتريه» المتناثرة على صفحات الجرائد، المسافة القصيرة الفاصلة، لن تخفي الكثير من ملامحه، على أي حال.
اعتدل في مقعده الجلدي خلف الطاولة الخشبية، وحثني على الحديث بحركة مهذبة، أرخى لها إحدى عضلات وجهه المشدودة مسبقاً، والتي خلتها تتضافر مع أخريات لبثق جديّة أكبر أمام الطلبة، وربما أمام القرّاء أيضاً.
عذرته وأنا أقول في سرّي، هي الأسماء وهذا فعل بريقها على صفحات الجرائد، لأولئك الشعراء، أو هي ترنّ في خضم اللقاءات الإذاعية الخاصة بهم.
غرقتُ في التفاصيل الشكلية للشّاعر، ملامح وجهه الشّابة، شعره الأسود، الكثيف، سالفيه، سترة بذلته الكحلية الداكنة ذات التصميم الغامض والغريب، بياقتها المستديرة، كثوب راهب أو قسيس، وهي تحيط بأسفل الرقبة، دون ربطة عنق.
أناقة خاطفة، لم أشهد مثلها من قبل؛ ما دفعني إلى اتخاذ قرار حاسم، تلك اللحظة، وهو ضرورة أن أواصل لأصبح شاعراً، كخطوة أولى، قبل أن أعتاد على اسمي وهو يزيّن الصحف المحليّة، فأحظى عندها بأناقة مماثلة.
استلني من شرودي، فارتبكت بمقدار المسافة الفاصلة بيننا، فبادرته بتسرع: ألست الشّاعر، صاحب الديوان الجديد «أقمار بيروت»؟
 أسند ظهره إلى مقعده وأجاب: بلى؟
تماديت أكثر فقلت: قرأته ولدي بعض الملاحظات عليه.
شملني بزهو ودهشة، وقال بأريحية: أنا أصغي..!
قلت له بأنني سجلتها على صفحات الديوان.
قال: لا بأس.. لتأتي غداً ومعك الكتاب، كي نتحدّث.
ثم تدارك قائلا: هل لديك اهتمامات شعرية؟
أجبت: بلى، ولدي محاولات أيضاً، لكنها بائسة بذلك السجع المقيت.
***
بحثت ليوم وليلة ولم أجد الكتاب، فأيقنت بأن أرفف البيت وزواياه، المثقلة بالضغينة لكل كتاب ضال، غير مدرسي، قد ابتلعته.
وكان لزاما أن أتفادى لقاء الشّاعر، أقصد مدير المدرسة، وأن أتجنبه تماماً، تفادياً لأي حرج محتمل.
ورحتُ أبحث عن مخرج.
 ****
قال لي صديقي ونحن في الطريق للقاء الشّاعر وندوة الإشهار:ما بين «أقمار بيروت» و»ممرات الأمل» زمن طويل، ومسيرة نضالية حافلة بالوقائع، الشّاعر لن يذكر شيئاً حول ما جرى بينكما منذ عقود فلا تشغل بالك.
ورحتُ أتساءل: كيف ينبغي للشّاعر أن يكون مناضلاً؟
كان هذا السؤال يقفز إلى ذهني من حين لآخر، كلما جمعتني الصدف القليلة بإحدى قصائد الأستاذ «محمد ضمرة»، أو خبر عنه في إحدى الصحف،حتى بعد أن توالت أخباره بنيل الشهادات التقديرية العديدة، والدروع، على جهوده الأدبية والتربوية، ومن جهات عديدة كمهرجان جرش وأمانة عمّان ومؤسسة البابطين للأدب والثقافة، وأخذت جميعها تزاحم القصائد لديه، لمْ أدرك الإجابة.
قال صديقي معقبا: ألا تُعد المساهمة في تطوير المناهج الدراسية نضالا تربويا؟
 لم أجب. فواصل يقول: الشّاعر «محمد ضمرة».. يجد الجميع في قصائده وعوداً طموحة بحتمية التغيير لما هو أفضل، ألا يعد هذا أيضا نضالا ثقافياً؟
***
في القاعة الصغيرة، لنادي أسرة القلم، وفي الموعد المحدد لحفل التوقيع المزمع، كنت أصافح رجلا مختلفا، لا يشبه صورته الذهنية، أبداً، رجلا جردته العقود الغابرة من كل شيء، إلا من جوهره الأزلي..وقاره وهيبته.
لكنه تذكرني، ربما من صوري المتفرقة على صفحات الجرائد، ولكنه لمْ يأتِ على ذكر الواقعة القديمة.
قلت له: بأن الوقت لص.. والزمن «حرامي».
أطرق، وهزّ رأسه، فاندفعت ترهلات وجهه وعنقه، وما تبقى لديه من شَعر مشتعل للإجابة، دون كلام.
عبرنا نحو «ممرات الأمل».. صديقي وأنا، لكننا لم نلمح صورة الشّاعر أو ذاته في الدروب، باستثناء ذلك الطفل الصغير وهو يقف أمام دكّان والده في ساحة القرية، ويصغي باهتمام ولهفة لثلّة من الرجال وهم يستعيدون في أحاديثهم وقائع العيش المرّ، أواخر الحكم التركي، والثورات المسلحة ضد الانتداب البريطاني وعصابات الصهاينة في فلسطين.
غمزني رفيقي حين وصلنا في «ممرات الأمل» إلى انعطافة الشّاعر ونشره المبكر لأولى قصائده على صفحات جريدة الجهاد المقدسية، عام 1964، وهو طالب في الثانوية، وبشّر فيها بحتمية الكفاح، لتنطلق بعدها الثورة الفلسطينية وكفاحها المسلّح، بسنة.
همس لي: «ممرات الأمل»، ليست بسيرة ذاتية، هي سيرة وطن وشعب بأكمله.
***
تذكرت فجأة، وأنا أحدق في وجه الشّاعر، من بين الحضور، وأصغي، بأنني أصبحت معتاداً على اسمي في الجرائد، ومنذ زمن، ولكنني لم أحظ بسرّ أناقته العتيقة، مثما ظننت.
نظرت إلى انعكاس وجهي في زجاج النافذة الجانبية للقاعة، فلم أجد ذلك التلميذ في مراحله الثانوية، الغابرة، بل لم أعثر على شيء يشبهني أبداً.
في الحقيقة كنت أطالع وجهاً آخر غير وجهي، وكنت أرى على مقربة منّي يد الزمن وهي تتهيّأ لتنقض على ملامحي ببراثنها، فأغمضت عينيّ، على رعب لم أعهده من قبل، وغبت.
حين فتحتهما من جديد، كنت على بُعد سنة على الأقل من ندوة النادي، ومن رفيقي الذي تلاشى بعد انتهائها بلحظة، ووجدت نفسي وحيداً، تائها، لم أزل أراوح في دروب الشّاعر، عالقا بين ممراته العديدة، وقصائده الواعدة.
ورحتُ أبحث عن مخرج.