Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    22-Apr-2021

ذكريات و عـظـات

 الدستور-محمد داودية

 
الحلقة 9
 
الصحافة عالم رحب هائل من التحديات والانجازات، من الأخبار والاسرار، من التحقيقات والاستقصاءات، خاصة في أعوام السبعينات والثمانينات، حين كان العمل في الصحافة محفوفا بمخاطر عديدة.
 
ولما اخذت قرار الموافقة على عرض الأستاذ راكان المجالي رئيس تحرير صحيفة الاخبار، والاستاذ فؤاد سعد النمري مالك الصحيفة، للعمل متفرغا، وضعت طاقتي البدنية كلها، وايضا وضعت قلبي وعقلي وروحي في العمل، فلا يجوز و»عيب على شاربي» ان ارسب في الامتحان، اي امتحان !!
 
نعم، نعم، كان يجب ان انجح نجاحا كاملا فقد اقحمت نفسي في مهنة جديدة صعبة قاسية مليئة بالجمال والإثارة والاتصال بالناس.
 
وحيث كنت من الجيل الجاد الذي يتنطح ويتنطع ويزعم انه يحمل قضايا الجماهير وهمومهم، فقد ناسبتني الصحافة التي تتيح لي مجالا واسعا للتعبير عن قضايا الناس.
 
كانت «عرض حال» مقالتي اليومية، متنفسا لي ولما استطيع كتابته وعرضه واثارته فيها من مظلومية الناس وقضاياهم العامة.
 
كان الرقيب الرسمي يداوم شخصيا وفيزيائيا في الصحيفة في أواخر السبعينات.
 
كنا ندفع الي الرقيب المقالات والتحليلات والترجمات السياسية فيقرأها ويقوم بوضع اشاراته عليها: هذا يحذف. هذا تعاد صياغته لأن فيه كلمة ستفسر الف تفسير. هذا يجاز. وبعد عناء طويل ووقت طويل يوقع الرقيب على اجازة المواد الصحافية.
 
اذ لا يقوم منضدو الحروف العاملون في الصحيفة بطباعتها، الا اذا كانت مجازة وموقعة من الرقيب.
 
***
 
لقد سبب لي الخطُّ التقدمي الإجتماعي الذي سرت عليه، والذي كان مُصنّفا خطاً معاديا في تلك الأيام، سبب لي متاعب لا تحصى: المنع من السفر. المنع من الكتابة. الفصل من العمل.
 
لقد تحقق قسم كبير من مطالبنا لاحقا. وقد اسهم تحقيق تلك المطالب في الإنفراج السياسي. وفي دسترة الأحزاب السياسية وانتقالها من العمل السري تحت الأرض الى العمل العلني. والتحول عن شعار اسقاط النظام. والتحول من معارضة الحكم والتشهير به، الى شعار «نحو اردن وطني ديمقراطي»، الذي اسهم في منعة النظام السياسي وقوة المجتمع الأردني.
 
كان برنامجنا الوطني محددا في دعم كفاح شعب فلسطين العربي من اجل الحرية والاستقلال والدولة الفلسطينية المستقلة. والمطالبة بإلغاء الاحكام العرفية. واطلاق الحريات العامة وحرية التعبير وفتح النوافذ للرأي والرأي الاخر. والمطالبة باجراء الإنتخابات النيابية. والسماح للأحزاب الدستورية بالعمل.
 
لقد اسفر ذلك النضال النخبوي الطويل الأمد في تحولنا «من معارضة الحكم الى معارضة الحكومات». وهو ما حقق «مصالحة تاريخية» بين النظام السياسي والأحزاب اليسارية والقومية، تجلّت في الميثاق الوطني عام 1990.
 
كان حزب الشعب الديمقراطي الأردني «حشد»، أول من طرح مبادرة المصالحة. وكانت هذه الدعوة، تفكيرا خلاقا، علاوة على انها عمل شجاع يسبح ضد التيار.
 
فقد نظرت القوى السياسية كلها الى دعوة المصالحة تلك، نظرة توجّس وتشكيك وارتياب. وقوبلت الدعوة باتهامات متفاوتة في حدتها.
 
كان الفكر السياسي الأردني مشدودا على وتر أن المعارضة هدف لا وسيلة. وان الهدف هو الوصول الى الحكم والتغيير، لا المصالحة و الإصلاح.
 
كان ذلك في منتصف الثمانينات حين كانت القوى السياسية الأردنية ما تزال تأتمر بالخارج. مُشَكّلة اذرعا لرؤوس وأجهزة في موسكو وبغداد ودمشق وليبيا وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين ومرجعية حزب التحرير.
 
حددتُ لنفسي الوسائلَ الضرورية للنجاح. خصصت نحو 18 ساعة في اليوم للصحيفة. عملت في كل الأقسام. من كتابة المقالة اليومية. الى كتابة الافتتاحية أحيانا. الى انتاج تحقيق صحفي كل يوم !
 
كنت احمل ورقا وقلما وكاميرا واذهب الى السوق او الشركات او المكاتب او المحافظات، أُجري الحوارات واصور واعود الى الجريدة اهيء المادة للطبع وادخل الى الغرفة السوداء (Dark Room)، احمّض الفيلم الذي صورته واطبعه وارفقه مع التحقيق.
 
كنت ارابط في الصحيفة طيلة النهار، آكلُ في المطاعم الشعبية القريبة. وانام بعمق على ورق الصحيفة، رغم هدير مطبعتها الهائل، الذي يفوق صوت الجرافات.
 
كنت أصحو نحو الساعة الرابعة صباحا، عندما تتوقف المطبعة كليا عن الدوران. واتناول أهنأ فطور مع الصديق إبراهيم زهر مدير المطابع -المقيم في مشيغان الآن والذي تمتد صداقتي معه إلى اليوم- فطور مكون من الشاي الأسود وقطعة من الكعك والبيض المسلوق وصحن الفول وصحن المسبّحة و»المنائيش».
 
ثم اركب السرفيس الى الزرقاء حيث منزل الوالدة. آخذ حماما ساخنا واحلق ذقني وأستبدل ملابسي واعود الى الدوام في الصحيفة، قرابة الساعة التاسعة صباحا. وهو دوام فرضْته انا على نفسي.
 
بعد عملي طيلة شهري تموز وآب، شهري العطلة الصيفية في الصحيفة، صار علي ان اتخذ قرارا مفصليا: التفرغ للعمل في الصحيفة او العودة الى التعليم !
 
شاورت كل الزملاء الذين اعمل معهم فأشاروا عليّ كلهم بعدم التفرغ !! عدنان الصبّاح، فواز كلالدة، محمود الحوساني، حافظ ملاك، يوسف حجازين، سليمان خير الله، نيقولا حنا، عبدالحميد المجالي، عبدالحافظ المبيضين ومحمد الشريف، لأن «صاحب الجريدة صعب للغاية وليس له أمان».
 
فعلا كان الرجل صعبا جدا. فهو لا يتورع عن فصل أي موظف بسبب ادنى تقصير. وقد اجد اسمي ذات يوم على باب الجريدة: ممنوع من الدخول !
 
دخلت على الرجل وقلت له:
 
اسمع يا أبا فارس، استشرت ولم ينصحني احد من الزملاء بالاستمرار في العمل معك !
 
قال: ماهي اسبابهم؟
 
قلت: لأنك بالفعل تفصل الموظف لأدنى تقصير.
 
قال: نعم. لقد صدقوا. لكن اسمع يا محمد، ما دمت تفيدني فإنني سأظل متمسكا بك وان أصبحت غير مفيد فسوف افصلك بلا تردد.
 
وأضاف مبتسما: لا اعتقد انك تنوي التقصير.
 
اقنعني منطقه وابلغته انني سأستقيل من التربية للتفرغ للعمل معه في الصحيفة.
 
كان صاحب جريدة الاخبار، فؤاد سعد النمري غاية في الدقة والترتيب والحرص ومتابعة ادق تفاصيل العمل. كان يتصل من بيته على الساعة التاسعة صباحا فيسأل عامل المقسم مين موجود في الصحيفة، فيقول له: محمد داودية. وعندما يسأل على الساعة الثالثة عصرا او على العاشرة او الثانية عشرة منتصف الليل او الثالثة صباحا، يكون اسمي في قائمة الموجودين، واحيانا يكون الاسم الوحيد.
 
في نهاية العام، أي بعد مضي 6 شهور فقط ضاعف الرجل راتبي كما اسلفت امس. وكان ذلك حدثا كبيرا في حياتي لانه يعني تقييما عاليا لعملي وجهودي من رجل صعب المراس وظيفيا.
 
لقد انخرطت في العمل بكل جوارحي بحب وبشغف وبمتعة. كان رهبنة بكل معنى الكلمة.
 
كنت دقيقا ومنظما ومرتبا. وزادني العمل في الصحيفة ومع أبي فارس، دقة وتنظيما وترتيبا. ولو سألت اليوم احد ابنائي، من هو اكثر شخص منظم في العالم لقال لك: محمد داودية.
 
أتاح لي العمل في الصحيفة ان اتعرف على القيادات الثقافية والإعلامية والسياسية والنقابية والحزبية والاجتماعية. وأصبحت مقالتي «عرض حال»، المكرسة للشؤون المحلية، من المقالات المعدودة المقروءة. والعمل انني من اوائل من ادخل المفردة العامية في المقالة الصحافية. فثمة كلمات عامية تسد عن مقالات مثل
 
يا هملالي. خذلك. شايفك. أظرب-إذرب ... الخ.
 
لقد تم منع مقالتي وتسببت حدتها في فصلي من العمل. كانت المقالات مؤثرة جدا ومرقوبة. ويتم تداولها وتوزيعها والحكي فيها.
 
كان ابرز كتّاب مقالات تلك الأيام: سليمان عرار وجمعة حماد وإبراهيم سكجها وعبدالرحيم عمر وراكان المجالي ونصوح المجالي وطارق مصاروة وفهد الفانك وإبراهيم العجلوني وجورج حداد وفهد الريماوي واحمد سلامة وفخري قعوار وبدر عبد الحق وخالد المحادين.
 
****
 
ادت «موجة الإحتواء الثانية» التي قام بها الملك الحسين في التسعينات الى دخول عدد كبير من شباب المعارضة الى «السلطة». دخلوها بكامل صحوهم ووعيهم وآمالهم الكبيرة في الإصلاح والتقدم.
 
لقد ادت «نقلة» الملك الحسين تلك والانفتاح السياسي العميق الذي اجراه الى تمنيع النظام السياسي ودعم الكيان الوطني. فصار ممكنا أن نتفادى كارثتين وبلائين استراتيجيين هما:
 
اولا: توقيع سلام مع إسرائيل سيكون مختلف في ظل حصار العراق وتحييده. وايضا عقد السلام قبل منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب العربي الفلسطيني.
 
ثانيا: الإصطفاف تحت راية حفر الباطن لغزو العراق، في حين كنا نتبنى الحل العربي لانسحاب العراق الذي غزا الكويت.
 
وايضا وفر الانفتاحُ منعةً مكّنت بلادنا من مواجهة اي خطر استراتيجي قادم.
 
على حد علمي لم يبقَ الا عدد قليل من المعارضة الوطنية الدستورية لم يصبح وزيرا او عينا ؟!
 
هؤلاء اصبحوا وزراء:
 
مازن الساكت، سمير حباشنة، عبد الكريم الدغمي، كمال ناصر، مصطفى شنيكات، يوسف العظم، خالد الكلالدة، فارس النابلسي، حسين مجلي، محمد العوران، محمد اسحق الفرحان، بسام حدادين، موسى المعايطة، عبدالله العكايلة، بسام العموش، ابراهيم زيد الكيلاني، سليم الزعبي، عبد الرحيم العكور، محمد الذنيبات، محمد فارس الطراونة ومحمد داودية.
 
والذي لم يصبح وزيرا بعد، لا شك انه سيصبح.
 
**
 
اسفرت نتائج تطبيق النظام الانتخابي سنة 1989 عن اثارة فزع وقلق النظام السياسي. وقلق وفزع أنظمة الاقليم السياسية. وقلق وفزع قوى المجتمع الأردني المدنية، من استحواذ جماعة الإخوان المسلمين على القرار والبلاد.
 
وقادت تلك النتيجة الى وضع نظام الصوت الواحد سنة 1993 «للحيلولة دون استيلاء الجماعة على البلد» كما قال مصطفى باشا القيسي مدير المخابرات لعبد اللطيف عربيات في حديث كنت بمعية دولة طاهر المصري شاهدين عليه.
 
لم يتسع الوضع انذاك لعقد صفقة وترتيبات تكفل الا ترشح الجماعة اكثر من العدد الذي يتم الاتفاق عليه.
 
كانت الجماعة جاهزة لعقدها. وكان النظام السياسي جاهزا لعقدها. وكان الاتفاق على النسبة المئوية هو العقدة التي اعترضت اسنان المنشار.
 
مدير المخابرات حدد حجم الجماعة ب 16%.
 
والجماعة كانت ترى ان حجمها هو 20%.
 
****
 
من جميل ما قيل:
 
‏* لو طبّق الناس ربع المواعظ التي يتبادلونها على الواتسآب وتويتر وفيسبوك وتانجو وانستغرام وغيرها، لصافحتهم الملائكة في الطرقات.