Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    06-Dec-2019

محمـــد صبيـــــــح.. الشّاعــر و«السيناريست»

 الدستور-ناصر الريماوي

«محمد صبيح».. يعاند ويراوغ في أحاديثه الهاتفية، على النقيض من طبعه المعتاد في الحوارات المرتجلة، وجها لوجه. نبرته الممغنطة تتيح له ذلك، وربما تستفزه نبرة صوتي البعيدة أيضاً.
قال لي محتداً قبيل مهرجان الأفلام الأردنية الأول: لا تعنيني جوائز المهرجانات.. غايتي الوحيدة من «سيناريو» فيلم «السلّم والحيوان»، أن يشير إلى واقع الحركة الثقافية المؤلم في هذا البلد.. الثقافة السمعية والبصرية والمقروءة تعاني (اعوجاجا) يا عزيزي.
 ليعيدني وقع هذه الكلمة المقيتة (اعوجاجا) إلى ثلاثين عاما خلت، وأنا الذي اعتقدت بأنني قد نسيتها، مثله تماما، بعد أن دفنتها ورائي في حارة «الساحة»، شرقي «الحاووز»، بالزرقاء ورحلت.
لمْ تكن كلمة عادية، بل كانت سلسلة متصلة من وقائع متعاقبة جلبت له الخيبات، كما ترتب عليها حرمانه الحصري من بعض الامتيازات المرحلية آنذاك، عوضاً عن كونها قد حددت له مساراً مستقبليا لا يحيد.
وهاهي الآن تفلت منه، لتؤكد لي تسيّد الخيبة، وتواصلها، باستحالة فوز فيلمه المذكور بأية جائزة،رغم قناعتي بأحقيته، قبل غيره، في ذلك المهرجان الهام.
***
في حارة «الساحة» ومنذ ثلاثين عاما.. تفاجأ جارنا الطيب، سعدي «البليط»، باستنفار الوجوه المشدوهة وتكاثرها حول قامته المغروسة بين شظايا الطوب المحطم، وأفزعته العيون النافرة على اتساعها وتقافزها المستهجن، بين جبينه المتعرق وردم السور، أسفل قدميه.
صاح به أحدهم: ما الذي فعلته يا مجنون؟ لتطلّ ذروة «الحاووز» بشموخها من فوق منازل الحيّ، وتستدير نحو مصدر الصوت.
ردّ «سعدي» بارتباك: ماذا فعلت؟!
أراح المطرقة الثقيلة بين ساقيه، وأرخى شدقه السفلي، قبل أن يلوّح أمامهم بقصاصة ورقية مجعّدة، مطبوعة، ومذيلة بختم دائري أزرق، أخرجها من جيبه، وهو يقول: أردتُ التخلص من كابوس البلدية.. هذا ما فعلته.
***
تكومنا بصمت مقرفصين تحت النافذة المطلة على رحابة «الزاروب»، وأخذنا نسترق السمع، تحسّباً. كان صاحبنا، «محمد صبيح»، أو بالأحرى قائدنا الميداني في حارة «الساحة»، يواجه تقريعاً قاسيا، لا مثيل له، هذه المرّة.
ينفلت صوت والده حاداً وصارماً: متى ستكف عن هذه الألاعيب الشيطانية يا ولد؟
ثم يواصل: لمْ يحدث في تاريخ المملكة كلها، أن تم نقل تلميذ في صفوف الإبتدائية، نقلا تأديبياً، إلا معك أنت.
يزداد صوت الأب شراسة وهو يواصل: لمْ يعجبك سور المدرسة الملاصقة لحارة «الساحة»، فقمت بفعلتك المشينة، لتغدو منبوذا في مدرسة بعيدة.
أما اليوم فقد تسببت في هدم السور الذي يستر بيت جارنا «البليط»، بهذه الألاعيب الخسيسة، أقسم إن تماديت أكثر لأسعى لدفنك حيا وسط «الساحة».. أتفهم؟.
يختنق القائد بعبراته، ولكن في ثبات.
 صوته غير مرتعش وعباراته تقفز في تحد خطير وهو يرد: كان نقلي جائراً، فقط طلبتُ منهم أن يعيدوا بناء السور الملتف حول حارتنا، ليغدو أجمل، وأما سعدي «البليط» فقد فعل هذا بسور بيته من تلقاء نفسه.
يرتفع الصوت الأبوي ساخطا هذه المرّة: ليست الأسوار هي المائلة وإنما عقلك المائل أيها المنحوس.
يعترضه صوت الأم، واهنا معذباً: «الله يخليك.. أترك عنك الصبي يا رجل».
ينبري القائد، دون تهيّب: لا.. لمْ أقل بأنها مائلة، قلتُ بانها (عوجاء).. عوجاء فقط.
***
لمْ يمض وقت يذكر، حتى كنّا برفقته، نبحث عن ظلّ يسترنا أمام بسطات الدكاكين المشرعة في الشارع السفلي من الحارة.
أمام إحداها.. أقرّ لنا بفشل المهمة، رسمياً.
وأحال السبب الثانوي إلى جارنا الممرض «عبود»، الذي انتزع إحدى الملصقات ولوّح بها أمام الجيران قائلا: هذا ليس ختم البلدية.. هذه الإشعارات مفبركة سادة.
وأما السبب الرئيس فعزاه إلى شريط الآلة الكاتبة، منتهي الصلاحية، وحبر ماكنة التصوير في «مكتبة الحرمين»، أما زميلنا، المتواطىء، ابن صاحب المكتبة، فلا شأن له في هذا.
بهذا ختم القائد كلامه، وهو يفضّ جلسته القصيرة، ويمضي.
***
بدأت حكاية «القائد» مع الأسوار واعوجاجها، ذات صباح معتم ومغبر، من صباحات «الزرقاء» المتشابهة.
ذلك الصباح حدّق أكثر مما يجب في سور المدرسة الابتدائية، «مدرسة الملك غازي»، الطرف القديم المقشّر من جانبه الذي يسند «الساحة».. ثم قال لنا شيئاً لمْ نعيه في وقته.
لمْ يترك مُعلماً إلا وتوسله بأن يقنع المدير بهدم السور ثم إعادة بنائه من جديد.
 في الحقيقة، كان يجلب الفوضى بذرائعه وتوسلاته لأيام متتالية، عن غير قصد، ويلقي بها على رؤوس الطلبة.
وحين علّقه مدير المدرسة من ياقة قميصه على خطّاف معقوف عند مطلع الدرج، لمْ يتوسله، وإنما صاح فيه: سور المدرسة أعوج وتصرفك هذا أكثر (اعوجاجا).. سيادة المدير.
ثم واصل خطبته على وقع الدهشة ودون انتباه لوجه المدير: جدران البيوت وأسوارها المطلة على «الساحة».. أيضاً (عوجاء)، والعتبات غير مستوية للجلوس عليها، حتى ذروة الحاووز.. غير شامخة.
***
بعد أيام قليلة، استقيظ الحيّ على عبارات ضخمة، محفورة ومطلية بطلاء أحمر، غائرة في جسد السور المدرسي من الخارج، والداخل.
ولما كانت تكلفة الإزالة لتلك الأخاديد الصبيانية العميقة، مساوية لتكلفة الهدم وإعادة بناء ذلك الجانب المروع من السور، فقد تم لقائدنا ما أراد.
 لكن الأمر لمْ يستقم إلا بعد أن انتهى به تلميذا منبوذا في ابتدائية، هي الأبعد على الأطلاق عن بيوتنا جميعا.. مدرسة «أبو أيوب الأنصاري».
أما الإشعارات المفبركة، وما اعترى جيران «الساحة» من توجس وقلق، وهم ينتزعونها عن أبوابهم، فقد كان لها أثر العِصيّ على جانبيّ جسده، وباطن قدميه،  فقط.
 ***
 في المرحلة الإعدادية، وبعد شهر واحد، فَقَدَ موقعه خلف «مايكروفون» الإذاعة المدرسية، والذي اكتسبه عن جدارة واقتدار، لنفتقد بدورنا لصوته الرخيم وارتجالاته الشعرية الجميلة بين فقرات الصباح المنوّعة.
في غرفة الإدارة، تخفف من حمل صدره الصباحي، حول (اعوجاج) الأمر، بين دوْر الإذاعة المدرسية والدور المنوط بمعلم التربية الرياضية في الإشراف عليها، مقترحا تكليف معلم آخر، كأستاذ اللغة العربية مثلا، وهو ما ظنّه تقويما في حينه.
ليخرج بعد اقتراحه من تلك الغرفة بخيبة ولوعة، ورغبة في نظم الشّعر والمطالعة.
في المرحلة الثانوية، ذاع صيته كشاعر، لكنه احتدم وشاع كمؤلف طلابي للمشاهد المسرحية الساخرة، بما تقدّمه من نقد موضوعي لاذع، وبقوالب كوميدية مبتكرة، وجميلة.
كان هذا على صعيد الأنشطة الصفيّة المختلفة والمنفردة، وأيضا في المناسبات الوطنية العابرة وغيرها كعيد المعلم ويوم الأرض.
لمْ يُنازعه أحد من الطلبة على أحقيّة التفويض الذي ناله من مدير المدرسة، كمشرف على جميع الفقرات المختلفة في يوم النشاط العام للمدرسة.
وبدا مسروراً رغم ضيقه الدائم من تسلط المدير واعوجاج قراراته الإدارية الأخرى، غير اللائقة بطلاب المرحلة الثانوية.
ذلك اليوم الربيعي، فوق خشبة العرض المخصصة، وأمام الحضور، من طلبة ومعلمين، ارتجل صاحبنا، مشهداً تمثيليا ساخراً، انتقد فيه التسلّط، وعزا بعض الانفلاتات الحاصلة في المدرسة، إلى شخص المدير دونا عن غيره.
لينال في إثرها حظراً شاملا، يقضي بمنعه من أيّة مشاركة فنية وأدبية في تلك المدرسة،
وينتهي به الأمر إلى مُطالع نهم، يؤلف مشاهده المسرحية الساخرة، بسريّة، تحجبه المقاعد الصفيّة وغُرف المطالعة، عن عسس المدير وأعوانه، وهو يمرر أغلبها خفية نحو تلاميذ المدرسة، وطلاب المدارس الأخرى.
***
في جامعة «اليرموك»، أدار ظهره لكلية الصحافة والإعلام، ليوم واحد فقط، ليجد نفسه بين الأمواج الهادرة من الطلبة المحتجين على حزمة القرارات الأكاديمية المجحفة بحقهم.
من وسط «السكوير» سارت أغلبية النخب الغاضبة من الطلبة وراء هتافه، المجنح، ضد اعوجاج القرارات وجورها.
 لكنه تمادى أكثر فأصاب الحكومة ووزارة التعليم بما تكره، لينتهي به المطاف في الغرفة المطلّة بشباكها الأزلي على «الزاروب» غير قانع بما جرى.
هذه المرة لم نكن نقرفص خلف النافذة، كنّا إلى جانبه، نصغي إلى صوت والده المتحفظ، الواهن بين علاّت صدره، دون تقريع، وتمتمات الأم الحنونة بنبرتها الخائرة، تطلقها كفراشات جميلة، تحلّق ثم تسقط بسلام من حولنا.
أما هو فبدا وكأنه يجيب على أسئلة، في الواقع لمْ يسألها أحد من حوله، ويقول: « بل هناك من يعمل على تسميم حياتنا باعوجاجه»..!
كان هذا آخر عهدي به.
يومها دفنتُ كلمته المقيتة، في تراب الحيّ وسط «الساحة».. ثم افترقنا.
***
بلغني في منفاي بأنه قد تخلى نسبيا عن اعوجاجه، الذاتي، فأتمّ دراسته الجامعية، وترأس نادي «أسرة القلم الثقافي» بالزرقاء، لسنوات عديدة، قبل أن يخطفه الحنين ذات مساء صيفي من نافذة النادي والشّعر، ليرمي به في حبائل المسرح المعقّدة، من جديد.
منذ عام 2008 و»محمد صبيح» يُفرجُ عن مسرحياته المكبوتة في صدره ويمنحها للكبار، «نبيل صوالحة»، «زهير النوباني»، «أمل الدبّاس».. وغيرهم.
تجاوز حبائل المسرح المتشابكة، بعد تنوع مزاجي وإبداعي مذهل ليستقرّ بين أحضان الدراما التلفزيونية الدافئة، وتحديداً في المواسم الرمضانية المباركة، ليغدو بعدها ذائع الصيت والاسم معاً.
***
ذلك المساء، حاز فيلم «السلّم والحيوان» على جائزة أفضل «سيناريو» في مهرجان الفيلم الأردني الأول، رغم انتقاده لواقع الثقافة والفن في البلد، ووصفها (بالعوجاء)، أو ربما كان اختيار الفيلم بتلك الأفضلية لهذا السبب، لا أدري تحديداً.. لكن الأهم، أن هناك من أنصف «محمد صبيح» أخيراً، ولم يحمّله وزر انتقاداته أو إشاراته المعهودة نحو اعوجاج ما.
قدمت له التهنئة عبر الهاتف النقّال، فاندفع صوته المموج بتلك النبرة الممغنطة الناقمة، دون مبرر فعلي: جائزة؟! ما أهمية الجائزة هنا؟! بل أين دورها في تقويم اعوجاج المفاهيم والنظم وحتى البشر أنفسهم؟
ثم أقفل خط الهاتف في وجهي وهو يصيح على الجانب الآخر: (عوجاء).. (عوجاء).