Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    20-Sep-2018

عندما بكى «صبي الأسرار»!! - محمد كعوش

 الراي - على طريقته، جذبني هدوء الليل في مدينة الصمت لأكتب عنه، فاكتشفت أنها حالة لا استطيع تحملها، لأنها توقظ القلق الوجودي في النفس المتوترة. خيري منصور شاعر كاتب مفكرمبدع نسيج وحده، لا يشبهه احد في الفكر والنمط والحياة، تميز بلغته الجميلة فاستعاد قلمه بهاء الأبجدية، له مصطلحاته الفكرية الفلسفية الذاتية، وعباراته الفريدة التي تشبه اناقته المبهجة، كان مكتبة زاخرة بالمعرفة تمشي على قدمين.

اختار الشاعر نهج حياته فعاش تمردا على كل ما هو عادي ومألوف، كما اختار موته الخاص في هذا الزحام العربي الدامي وهو يردد عبارته المشهورة»خليل حاوي هو اصدق واشجع الشعراء لأنه احتج على اجتياح بيروت موتا».
من الصعب الكتابة عن صديقك الأعز الغائب، وانت تسمع صدى صوته الجهوري يلازمك في كل زمان ومكان، خصوصا اذا كان الغائب بحجم خيري عاشق الليل»صبي الأسرار».
قال لي انه يعشق القاهرة لأنها تشبهه فهي مدينة ساهرة لا تنام، على عكس صديقه الشاعر الراحل محمود درويش الذي كان يخشى الليل والوحدة، فيتصل بخيري كلما عانى من ضيق او قلق او ضجر خلال الليل ليقول له «اتصل بك لأنك الصديق الحي الوحيد في هذا الليل الموحش».
عندما عاد من القاهرة الى عمان يوم 25يناير قال لي انه غادر مصر بعد زيارته لميدان التحرير لأنه راى في الميدان وجوها غريبة تبعث على الشك، لا تنتمي الى الحركة الوطنية في مصر، وحذرني في وقت مبكّر من عواقب ونتائج الأنجرار وراء من يصفقون للربيع العربي ابتهاجا. وعندما زار خيري الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل مودعا قال له هيكل «قلقك مشروع يا خيري».
وعلى سيرة هيكل اشير الى انه شفي من السرطان وتمكن من قهره، وقال لخيري» قرقشت السرطان وقهرته مرتين»، قالها خيري لي ليشد من ازري ويشجعني على المقاومة، ولم يكن صديقي يعلم ان هذا المرض الخبيث تسلل الى داخل جسده النحيل، دون أن يمنحه فرصة المقاومة والانتصار للحياة التي اقبل عليها بشغف، فاختطفه الموت مبكرا.
تطلعات خيري القومية تجاوزت هويته القطرية، فانشغل بالكتابة عن التدميرالذاتي العربي بمرارة وغضب وحزن، وبلغته واسلوبه وهو الذي امتلك ناصية اللغة والثقافة والابداع، ولكنه لم يكتب كل ما اراد، فلم يمهله المرض، وهو لم يكن يعلم أنه يتعرض لعملية تدمير ذاتي داخلي انهت مشوار شاعر كاتب جوّال، حمل قلقه الأبدي وهمومه القومية من عمان الى الكويت الى بغداد الى بيروت الى القاهرة. في لقاء قريب مضى علمت منه انه بكى في حياته اربع مرات، عندما توفي جمال عبد الناصر، وعندما سقطت بغداد ، وعندما فقد محمود درويش، واخيرا عندما عاد الى البيت اخيرا ليجد احفاده على سريره فحضنهم ونام بينهم وبكى بشدة وحرارة بلا مناسبة.
في محطتنا الاخيرة انتهى الحديث في المقهى وودعته وافترقنا على امل اللقاء، دون أن ادري أن مقعد خيري سيظل شاغرا وفنجان قهوته فارغا، ولكن ما يعزينا أنه ترك لنا كل ما لا ينسينا... كلماته وصوته وفكره وشعره الذي يمثل اجمل البدايات، له الرحمة وليرقد بسلام بعدما انهكه تعب الرحيل.
m.yousefkawash@gmail.com