Thursday 18th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    24-Jan-2020

مكابدات العيش المُرّ

 الدستور-إبراهيم عقرباوي

في هذا الصباح الدافيء كقبلة أُمّ على جبين وحيدها القاصد سفراً بعيداً، ارتشف قهوتك على مهلٍ ولا تتعجل مغادرة أحلام يقظتك المتفتحة كأزهار في أرضٍ خراب. تذوق طعمها المُذكِّر بالتفاؤل، واستنشق رائحتها القريبة من نعيم التحرر من العناء. حاورها بصمت، وبُح لها بما خفي من صغار الهموم وعظائم الأوجاع. حدِّثها دون كلام كصديقٍ وفيًّ لا يتكرر.
في هذا الصباح الخارج من عتمات الأحلام الثقيلة احتسي قهوتك بتأن، وطالع وجه الأمنيات المضيء، ولا يحزنك طول مكثها في قاع البئر العميقة المائلة الى الظلام الذميم، وكن صبوراً كما يليق بك وبأمثالك من الشجعان الذين يواجهون تصاريف الدهر، وحقارات عشاق الدنيا بما قلَّ من سلاح الكرامة، وكثر من عزيمة دفع الأذى وكبح جماح الهوى.
كن صبوراً، فحتماً الله لا يترك من لا ينسوه وعليه اعتمادهم، وأمنياتهم إليها يرسل سيَّارة من عنده ليخرجوها من ظلمات الأسى الى نور الرضى.
لا ننكر للصباح فضله في بث التباشير وجذب زنابق التفاؤل.
لا ننقص شعاع الصباح حقه وفاعليته في رأب صدع جدران أحلام الليلة المنصرمة مخافة أن لا تتحقق البتة، وإنعاش حديقة النفس الجانحة نحو الذبول.
لا ننسى الواعظ الأمين في لفتاته البليغة المؤثرة، ناشداً إنارة المظلمين ليصيروا إخوة للضياء، وإن استشرست العتمات. نقرُّ أن قلة قليلة من المقربين لأنفاسنا لها يد علينا، وجزاء احسانها الجميل إحسان أجمل، ولا يشتد عود العزم، ولا نرفع بيدنا راية ضعف مهما إحلولكت خطوب الليالي المشمرة عن ساقها.
لكن ماذا عن الذين يؤمنون بالحرب ويكفروب بالحب، ويتفاخرون باعتمادهم كوكلاء عن حزب الشيطان ؟!
ماذا عن أتباع العقل السقيم، العابدين أصنام ذواتهم، العاكفين على خلط السم بالدسم، وترجمة الأحقاد الكامنة بسواد عميم، المشركين معهم في رذائلهم كل دنيء وقميء ؟!
ماذا عن سجالات حرب النهار الطويلة مع أوباش الخلق ثم القعود برهةً في دائرة الهدنة قصيرة المدى ؟!
ماذا عن النجاحات المتواضعة، والخسارات اليومية الهابطة على أرض القلب بقسوة ؟!
ماذا عن الآخرين أصحاب الاختصاص في افتعال الخصومات، والتوطئة للدخول في سكرات المنغصات الشديدة الوقع على نفس المتعب الرهيف ؟!
ماذا عن فشل الطيبين في صد أو مقاومة خبث السيئين القادرين على وضع اللمسات الأخيرة على مكائدهم لإدخال من أرادوا في معترك الأحزان الباهتة، ورثاء محاسن الوجود الغاربة ؟!
كن كالحبق، يعطر وجه الصباح بالعبق.
كن صبوراً على تركهم لك وحيداً تحت نثيث الثلج وبرد الخذلان.
تناسى سيئاتهم التي أحصيتها عدداً، وأذكر خصالهم المضمخة بعبير العفو وأريج السماحة، وأشر الى دماثتهم الممهورة برائحة البرتقال.  لا تشن غارة الملامة ذات الشفار الجارحة على أوزار القريبين من دائرة إهتمامك بل مد لهم يداً من ماء الطهارة والحدب الرقيق، ورافقهم برفق إلى منازل الزنبق ورياحين السلام.
من محاسن قدري، ومباهج حظي في هذه الدنيا القصيرة كفرحٍ طاريء أن من يتوارون خلف متاريس كراهيتي معدودين ومحصورين ومارقين كلحنٍ نشاز يخرب الايقاع الروحاني الشفيف، ولا وزن لهم في كفة الكرام أو ملة الطيبين.
عاش الحب سيداً مطاعاً، وبظلاله يلوذ الكثرة الكاثرة ممن يحفظون عهد مودتي لهم، وبصحبتي يحتفون. لا أتوسل أحداً كي يحبني فلقد تمرست طويلاً على أن لا أكترث لكراهية قباح القلوب، وأن لا يستوقفني نفاقهم الغبي ومودتهم الطالعة من مستنقع الكذب، لا يعيبني عثاري وقصوري وتضاؤل حجم حيلتي، وأخطائي المحدودة الأثر، وتناثر حظوظي في دروب الدنيا وتذويبها في نهر الأمل. وتعجبني نفسي حين أسقط ثم لا ألبث غير قليل حتى أعود ساطعاً كنجمة في ليل اللامستحيل.
في حياتي ثلة من البشر تضيء بالحب، يهمها أمري وتكترث بي، وتحوط أيامي بالرعاية، فلها أنتمي ولأجلها أُضحي. وفي حياتي كثير من الأنانيين الحمقى، والانتهازيين الأوغاد، والعنصريين الأغبياء، والجهويين الذين يتحلون بخفة العقل وضياع الحكمة، ومثقفين يعانون ازدواجية ناصعة، وأدباء حالمين يجلسون على حافة الوهم بحثاً عن الحقيقة الغائبة، وأصحاب تحصنوا بأبراج النكران وحرق مفكرة الذكريات بحطب ليل التآخي، وعشاق دنيا يؤمنون أنه « لا إله إلا الله والحياة مادة « هؤلاء جميعاً لا أُضمر لهم سوى أسف يخالطه إشفاق ودعاء بأوبة الى غيم النقاء.
لا أدري كم من نقاط سوداء عصفت بأوراق مفكرة عمري، وكم من نقاط مضيئة ألقت على روحي السلام !
كم مرَّ بباب حياتي من بشر أعذب من بشارة، وأسمى من وعدٍ صادق، وظلوا مواظبين على رفع درجة حرارة الود، وخفضها للألفة لتبقى طازجة التجلي !
وكم مرق بشباك حياتي من أناس على أياديهم تتلمذ المكر، وبهم إلتصق الضلال، وكعملة رائجة يتداولون الكذب ويحترفون قول الزور.. قساة عتاة، على قلوبهم أقفال العتمة، وبدربهم تتقافز شياطين الخبث والقتامة.
إن الذي استدرجك الى شرك المكر السيء ومنحدرات الأذى ليلحق بقوافل ذاتك العامرة بالخيرات والمسرات أفدح الخسائر في الدرك الأسفل من الضلال المبين يجالس العمى، وينادم الحسرات تحت شواظ السيئات.
ها قد مرت سنوات العمر لا مرَّ سحابٍ ولا شرود غزال، وضحك المشيب برأسنا فلم نبكِ على تواري رونق الصبا ولا على بوارق المنى التي أضحت حطاماً ملقى بباب زخرف الدنيا المتأهبة للزوال.
لا مزيد من أسى على ما أدبر من ليالي مخضبة بالنفسج. ومواعيد مكاتيب الشتاء التي لا تجيء في غربة الروح الكامنة في مخابيء الشوق ومهاجع الأخيلة الدافئة.
قليل أفراحنا لم يكن زاد مسافر مضى في دياجير الكرب الساجية، وكمشة أحلام تحققت لم يرضَ عن تمنع بقيتها عزم الفارس الغريب، وبرغم هذا ظلت غلال أيامنا وفيرة نضيرة، وسلال زهورنا فواحة بإطلالة الصباح.