Wednesday 24th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    11-Feb-2019

مَن سيديرُ العالم (4)

 الغد-عصر السلام القلِق: القوة الصينية في عالَم منقسِم

 
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
 
يان زويتونغ* – (فورين أفيرز) عدد كانون الثاني (يناير)/ شباط (فبراير) 2019
في أوائل تشرين الأول (أكتوبر) 2018، ألقى نائب الرئيس الأميركي، مايك بينس، خطاباً قوياً في مؤسسة فكرية في واشنطن، والذي سرد فيه قائمة من مواطن التأنيب ضد الصين. ومن النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، إلى التدخل الصيني المزعوم في الانتخابات الأميركية، اتهم بينس بكين بخرق القواعد والأعراف الدولية والتصرف ضد المصالح الأميركية. وكانت اللهجة حادة بطريقة غير معتادة –حادة بما يكفي ليفسرها البعض بأنها نذير بنشوب حرب باردة جديدة بين الصين والولايات المتحدة.
مع أن مثل هذه المقايسات التاريخة شائعة بقدر ما هي مضللة، فإن المقارنة تظل منطوية على شيء من الحقيقة: لقد أتت فترة ما بعد الحرب الباردة من الهيمنة الأميركية إلى نهاية، والثنائية القطبية مهيأة لعودة، بينما تلعب الصين دور القوة العظمى الصغرى. وسوف يكون الانتقال شأناً مضطرباً صاخباً، بل وحتى عنيفاً، بينما يضع صعود الصين ذلك البلد على مسار تصادمي مع الولايات المتحدة حول عدد من المصالح المتضاربة. ولكن، بينما تنسحب واشنطن ببطء من بعض من انخراطاتها الدبلوماسية والعسكرية في الخارج، ليست لدى بكين خطة واضحة لملء هذا الفراغ في القيادة وتشكيل القواعد الدولية من الأرض وإلى الأعلى.
أي نوع من النظام العالَمي سوف يجلبه هذا؟ على النقيض مما تقترحه المزيد من الأصوات المحذِّرة، فإن عالماً ثنائي القطبية من الولايات المتحدة-الصين لن يكون عالماً على حافة نشوب حرب نهاية العالم. ويعود هذا في جزء كبير منه إلى أن طموحات الصين في السنوات المقبلة هي أضيق بكثير مما تفترضه الكثير من مؤسسات السياسة الخارجية الغربية. وبدلاً من إسقاط الولايات المتحدة عن عرشها باعتبارها القوة العظمى الرائدة في العالم، سوف تركز السياسة الخارجية الصينية في العقود المقبلة إلى حد كبير على إدامة الشروط الضروية لاستمرار نمو البلد الاقتصادي–وهو تركيز يرجح أن يدفع القادة في بكين إلى تجنب خوض مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة أو حلفائها الأساسيين. وبدلاً من ذلك، سوف تكون الثنائية القطبية المقبلة حقبة من السلام القلِق بين القوتين العظميين. وسوف يبنى الطرفان جيشاهما، لكنهما سيتوخيان الحذر إزاء إدارة التوترات قبل أن تذهب إلى توريطهما في صراع مباشر. وبدلاً من السعي إلى الهيمنة العالمية من خلال تحالفات متعارضة، سوف تخوض بكين وواشنطن منافستهما إلى حد كبير في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية. وفي الوقت نفسه، من المرجح أن تؤذن ثنائية القطبية الأميركية-الصينية بنهاية التعددية القطبية المستدامة خارج المجالات الاقتصادية البحتة، بينما سيتيح المزيج من الشعبوية القومية في الغرب والتزام الصين بالسيادة القومية القليل من الحيز لنوع بيئة التكامل السياسي والأعراف والقواعد التي كانت ذات مرة العالمة الفارقة للأممية الليبرالية.
ما الذي تريده الصين
لتنامي نفوذ الصين على الساحة الدولي الكثير من الصلة بتخلي الولايات المتحدة عن قيادتها الدولية في عهد الرئيس دونالد ترامب بقدر ما لها من العلاقة بصعود الصين الاقتصادي هي نفسها. ومن الناحية المادية، فإن الفجوة بين البلدين لم تتقلص كثيراً في السنوات الأخيرة: منذ العام 2015، تباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي للصين إلى أقل من 7 في المائة في السنة، وتضع التقديرات الأخيرة معدل النمو الأميركي فوق علامة 3 في المائة. وفي الفترة نفسها، انخفضت قيمة الرنمينبي بنحو 10 في المائة في مقابل الدولار الأميركي، وهو ما خفض قدرة الصين على الاستيراد وكذلك قوة عملتها عالمياً. ومع ذلك، كان الذي تغير بقدر كبير هو توقع أن تواصل الولايات المتحدة–من خلال الدبلوماسية، والقوة العسكرية إذا لزم الأم- تعزيز نظام دولي بُني في الجزء الأكبر منه حول المبادئ الليبرالية الأممية. وفي عهد ترامب، انفصل البلد عن هذا التقليد، مستنطقاً قيمة التجارة الحرة ومعتنقاً قومية شرسة بلا قواعد ولا قيود (في النزاعات). وتقوم إدارة ترامب بتحديث الترسانة النووية الأميركية، محاولة ليّ ذراع الأصدقاء والأعداء على حد سواء، وتنسحب من العديد من الاتفاقيات والمؤسسات الدولية. وفي العام 2018 وحده، تخلصت من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى، والاتفاق النووي مع إيران، وعضوية مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
ما يزال من غير الواضح ما إذا كان هذا الشكل من إعادة التخندق مجرد هفوة لحظية –انحراف قصير الأمد عن القاعدة- أم نموذجاً جديداً للسياسة الخارجية الأميركية، والذي يمكن أن يدوم في ما بعد ولاية ترامب. لكن التداعيات العالَمية للترامبية دفعت بعض الدول مسبقاً نحو الصين بطرق ربما كانت ستبدو غير قابلة للتصور قبل بضع سنوات فحسب. ولنأخذ رئيس الوزراء الياباني، شينزو آبي، الذي قام عملياً بعكس وجهة علاقات اليابان بالصين لتتحول من العداء الخفي بالكاد إلى التعاون خلال زيارة دولة قام بها إلى بكين في تشرين الأول (أكتوبر) 2018، حيث وقعت الصين واليابان أكثر من 50 اتفاقية للتعاون الاقتصادي. وفي الأثناء، تستمر العوامل الهيكلية في توسيع الفجوة بين الرائدين العالَميين الأبرز، الصين والولايات المتحدة، وبين بقية العالم. ويتجاوز الإنفاق العسكري لكلا الدولتين بكثير إنفاق كل أحد آخر. وبحلول العام 2023، ربما تصل الميزانية الدفاعية للولايات المتحدة إلى 800 مليار دولار، وربما تتجاوز نظيرتها الصينية 300 مليار دولار، في حين لن تنفق أي قوة عالمية أخرى أكثر من 80 مليار دولار على قواتها العسكرية. وإذن، لا يتعلق السؤال بما إذا كان نظام عالَمي ثنائي القطبية، أميركي-صيني، قادماً على الطريق، وإنما ما الذي سيبدو عليه هذا النظام.
على قمة أولويات بكين، ثمة نظام اقتصادي ليبرالي قائم على التجارة الحرة. وكان تحول الصين الاقتصادي على مدى العقود الماضية من مجتمع زراعي إلى مركز قوة عالمي –وثاني أكبر اقتصاد في العالم- قد بني على الصادرات. وشق البلد طريقه ببطء صعوداً في سلسلة القيمة، وتشرع صدراته في التنافس مع الاقتصادات المتقدمة للغاية. والآن، وحينذاك، ما تزال هذه الصادرات تشكل شريان الحياة للاقتصاد الصيني: فهي تضمن فائضاً تجارياً مستمراً، والوظائف التي تخلقها هي محرك حيوي للاستقرار الاقتصادي المحلي. وليس هناك ما يشير إلى أن هذا الواقع سيتغير في العقد القادم. وحتى في وسط التوترات الاقتصادية المتصاعدة بين بكين وواشنطن، واصل الحجم الإجمالي للصادرات الصينية نموه في العام 2018. وربما تتسبب التعريفات الجمركية الأميركية ببعض الألم، لكنها لن تغير الحوافز الأساسية لبكين، ولن تؤذن بتحول عام للصين عن التجارة العالمية.
بل على العكس تماماً: بما أن الصادرات الصينية حاسمة لنجاحها الاقتصادي والسياسي، على المرء أن يتوقع أن تكثف الصين محاولاتها لكسب وإدامة الوصول إلى الأسواق الأجنبية. ويقع هذا الحافز الاستراتيجي في القلب من مبادراتها التي يُروَّج لها كثيراً، الحزام والطريق، والتي تأمل الصين في أن تطور من خلالها شبكة هائلة من الطرق البرية والبحرية التي تربط بين مراكزها التصديرية وبين الأسواق القصية. وبحلول آب (أغسطس) 2018، كانت نحو 70 دولة ومنظمة قد وقعت عقوداً مع الصين على مشاريع متصلة بالمبادرة، وهو رقم مرشح للارتفاع في السنوات المقبلة. وفي مؤتمره الوطني في العام 2017، ذهب الحزب الشيوعي إلى حد تضمين الالتزام بالمبادرة في دستوره –في إشارة إلى أن الحزب ينظر إلى مشروع البنية التحتية هذا على أنه أكثر من مجرد سياسة خارجية عادية. كما ترغب الصين أيضاً في توسيع فتح أسواقها المحلية أمام السلع الأجنبية في مقابل تحقيق وصول أكبر إلى الخارج. وعلى سبيل المثال، في الوقت المناسب لإقامة معرض تجاري كبير في شنغهاي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018 –والمصمم لعرض إمكانات البلد كوجهة للسلع الأجنبية- قامت الصين بتخفيض تعريفتها الجمركية العامة من 10.5 في المائة إلى 7.8 في المائة.
بالنظر إلى هذا الحماس للاقتصاد العالمي، فإن صورة الصين الرجعية، التي كسبت جاذبية في العديد من العواصم الغربية، تبدو مضللة. وتعتمد بكين على شبكة عالمية من العلاقات التجارية، ولذلك تكره الدخول في مواجهات مع الولايات المتحدة. ويخشى قادة الصين –وليس من دون سبب- أن تؤدي مواجهة من هذا القبيل إلى قطع وصولها إلى الأسواق الأميركية، وأن تدفع حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين إلى الاجتماع معاً ضد الصين بدلاً من البقاء محايدين، مما يجردها من شراكات اقتصادية مهمة وعلاقات دبلوماسية قيِّمة. ونتيجة لذلك، سيكون الحذر، وليس العدوانية وتأكيد الذات، هو الترتيب اليومي في سياسة بكين الخارجية في السنوات المقبلة. وحتى بينما تواصل تحديث جيشها وتوسيعه، سوف تتجنب الصين بعناية الدفع بالقضايا التي ربما تؤدي إلى نشوب حرب مع الولايات المتحدة، مثل تلك المتصلة ببحر الصين الجنوبي، والأمن السيبراني، وعسكرة الفضاء.
قواعد جديدة؟
في الحقيقة، بقدر ما يأمل القادة الصينيون في الوقوف على قدم المساواة مع نظرائهم في واشنطن، فإنهم يقلقون بشأن التداعيات الاستراتيجية لنظام ثنائي القطبية، أميركي-صيني. ويرفض القادة الأميركيون فكرة التخلي عن موقعهم على قمة سلسلة الغذاء العالمية، ويرجح أن يقطعوا أشواطاً كبيرة لتجنب الاضطرار إلى القبول بالصين واستيعابها. وسوف يفضل المسؤولون في بكين، الذين ليسوا في عجلة من أمرهم ليصبحوا الموضوع الأوحد لمخاوف واشنطن وازدرائها، أن يروا عالماً متعدد الأقطاب، والذي تجبر فيه التحديات الأخرى –والمتحدون- الولايات المتحدة على التعاون مع الصين.
في الواقع، يعرض صعود الولايات المتحدة نفسها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين نوعاً من النموذج عن الكيفية التي ربما يحدث فيها تحول قوة قادمة. في ذلك الحين، ولأن المملكة المتحدة، المهيمن الذي لا يُنازع على العالم في ذلك الوقت، كانت منشغلة في صد منافس في محيطها القريب –ألمانيا- فإنها لم تكلف نفسها كثيراً عناء احتواء صعود منافس أقوى بكثير عبر المحيط. وتأمل الصين في حدوث دينامية مشابهة الآن، ويشير التاريخ القريب إلى أنها يمكن أن تنجح بالفعل. وفي الأشهر الأولى من رئاسة جورج دبليو بوش، على سبيل المثال، كانت العلاقات بين واشنطن وبكين تتوتر صاعدة فوق النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، لتصل إلى نقطة غليان عندما توفي طيار من سلاح الجور الصيني في تصادم في الجو مع طائرة استطلاع أميركية في نيسان (أبريل) 2001. ومع ذلك، في أعقاب هجمات 11/9 بعد بضعة أشهر من ذلك، أصبحت واشنطن تنظر إلى الصين كشريك استراتيجي في حربها العالمية على الإرهاب، وتحسنت العلاقات بين البلدين بشكل ملحوظ خلال بقية فترتي ولاية بوش.
اليوم، لسوء الحظ، أصبحت قائمة التهديدات المشتركة التي يمكن أن تدفع البلدين إلى التعاون قصيرة. وبعد 17 عاماً من حملات مكافحة الإرهاب، تلاشى الإحساس بالطوارئ الذي أحاط ذات مرة القضية. وبنفس المقدار، ليس من المرجح أن يشق التغير المناخي طريقه إلى قائمة أعلى التهديدات في أي وقت قريب. ولعل السيناريو الأكثر قبولاً هو أن تدفع أزمة اقتصادية عالمية جديدة في السنوات المقبلة قادة الولايات المتحدة والصين إلى وضع خلافاتها جانباً مؤقتاً لتجنب كارثة اقتصادية –لكن هذا، أيضاً، يبقى تصوراً افتراضياً.
حتى تصبح الأمور أسوأ، يبدو أن بعض نقاط الصراع المحتمل موجودة هنا لتبقى –والأبرز من بينها تايوان. وقد اتخذت العلاقات بين بكين وتايبيه –المتوترة مسبقاً- منعطفاً نحو الأسوأ في السنوات الأخيرة. فقد شككت حكومة تايوان الحالية، التي انتخبت في العام 2016، في فكرة أن أرض الصين الرئيسية وتايوان تشكلان بلداً واحداً -الفكرة المعروفة أيضاً باسم مبدأ “صين واحدة”. ويحتمل كثيراً أن تدفع حكومة مستقبلية في تايبيه من أجل الاستقلال باعتراف قانوني. ومع ذلك، يمكن أن يكون إجراء استفتاء تايواني على الاستقلال بمثابة خط أحمر بالنسبة لبكين، والذي ربما يدفعها إلى اتخاذ إجراء عسكري. وإذا استجابت الولايات المتحدة بالقدوم لمساعدة تايوان، فإن تدخلاً عسكرياً من بكين يمكن أن يتطور بسهولة إلى حرب أميركية-صينية شاملة. ولتجنب نشوب مثل هذه الأزمة، تبدو بكين مصممة على تقويض أي تطلعات تايوانية إلى الاستقلال في مهدها بوسائل سياسية واقتصادية. ونتيجة لذلك، من المرجح أن تواصل تحشيد دول ثالثة ودفعها إلى قطع علاقاتها مع تايبيه، وهو نهج اتبعته مسبقاً مع العديد من دول أميركا اللاتينية.
سواء كان ذلك بدافع الحذر أو سواه، اعتمدت الصين تركيزاً مختلفاً بعض الشيء في مقاربتها للقواعد التي يتأسس عليها النظام العالمي. وبشكل خاص، سوف تدفع صين أكثر قوة نحو وضع تركيز أقوى على السيادة الوطنية في القانون الدولي. وفي السنوات الأخيرة، فسر البعض التصريحات العلنية التي أدلى بها القادة الصينيون لدعم العولمة كإشارة على أن بكين تسعى إلى عرض نفسها باعتبارها الوصي والراعي الجديد للنظام العالمي الليبرالي، ومع ذلك، تبقى مثل هذه التفسيرات مجرد أمنيات: فالصين تؤشر فقط على دعمها لنظام اقتصادي ليبرالي، وليس لاندماج سياسي متزايد. وتبقى بكين خائفة من التدخل الخارجي، خاصة فيما يتعلق بهونغ كونغ، وتايوان، والتبيت، وشينجيانغ، وكذلك حول شؤون حرية الصحافة وأنظمة الإنترنت. ونتيجة لذلك، تنظر إلى السيادة الوطنية، أكثر من المسؤوليات والقواعد الدولية، باعتبار أنها المبدأ الأساسي الذي ينبغي أن يستند إليه القانون الدولي. وحتى مع أنها ستكون قوة عظمى جديدة في العقود المقبلة، فإن الصين سوف تتبع سياسة خارجية أقل تدخلية مما فعلت الولايات المتحدة في ذروة قوتها. ولنفكر في قضية أفغانستان: مع أنه ليس سراً أن الولايات المحدة تتوقع أن يتحمل الجيش الصيني جزءاً من عبء حفظ الاستقرار هناك بعد مغادرة القوات الأميركية البلد، فإن الحكومة الصينية لم تظهر أي اهتمام بهذه الفكرة.
كما قد تجلب زيادة النفوذ الصيني في ركابها أيضاً محاولات للدفع بنسخة من نظام عالمي ينسج على منوال التقاليد الفلسفية ونظريات صناعة الدولة وفن الحكم التقليدية الصينية. وثمة مصطلح يتم تداوله بكثرة في بكين بشكل خاص: “وانداغو”، أو “السلطة إنسانية الطابع”. ويعرض هذا المفهوم صورة للصين كمهيمن متنور وخيِّر، والذي تنبع قوته وشرعيته من قدرته على تلبية الاحتياجات الأمنية والاقتصادية للدول الأخرى -في مقابل خضوعها للقيادة الصينية.
الثنائية القطبية في الممارسة
بالنظر إلى الظل الطويل للتصعيد النووي، فإن خطر نشوب حرب مباشرة بين الصين والولايات المتحدة سوف يظل ضئيلاً، حتى بينما تتكثف المنافسة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية بينهما. ومن غير المرجح أن تغير الجهود التي يبذلها كلا الجانبين لبناء دروع مضادة للصواريخ تزداد فعالية باطراد هذا الواقع، بما أن أياً من الصين والولايات المتحدة لا تستطيع أن تطور أنظمتها المضادة للصواريخ إلى درجة جعل بلدها منيعاً تماماً أمام هجوم نووي مضاد. وإذا كان ثمة شيء، فهو أن انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى سوف يشجع كلا الطرفين على بناء قواتهما النووية وتحسين قدراتها في الضربة الثانية، لضمان أن لا يكون أي من الطرفين واثقاً من قدرته على شن هجوم نووي على الآخر من دون مواجهة رد مدمر. كما سيحول خطر نشوب حرب نووية أيضاً دون تصعيد التوترات الصينية مع القوى الأخرى المسلحة نووياً، مثل الهند، إلى حرب مباشرة.
مع ذلك، لا يمكن استبعاد الحروب بالوكالة، ولا المناوشات العسكرية بين الدول الأصغر. وفي الحقيقة، من المرجح أن تصبح المناوشات أكثر تكراراً، لأن ضبط النفس الذي تمارسه القوتان العظميان ربما يشجع بعض الدول الأصغر على حل الصراعات المحلية باستخدام القوة. وربما لن تتردد روسيا، على وجه الخصوص، في خوض الحروب بينما تحاول استعادة مكانتها كقوة عظمى والحفاظ على نفوذها في شرق أوروبا والشرق الأوسط. وفي مواجهة الدعوات إلى إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإن القوى المتراجعة، مثل فرنسا والمملكة المتحدة، ربما تسعى إلى دعم مطالبهما بالعضوية الدائمة في المجلس من خلال التدخلات العسكرية في الخارج. وفي الأثناء، لا يظهر الصراع على الهيمنة الإقليمية في الشرق الأوسط بين إيران، وتركيا، والمملكة العربية السعودية، أي إشارة على التراجع. وفي كل أنحاء الكوكب، سوف تتواصل الصراعات الانفصالية والهجمات الإرهابية -والأخيرة بشكل خاص- إذا ما أدت المنافسة بين الصين والولايات المتحدة إلى تقليل تعاونهما حول تدابير مكافحة الإرهاب.
في المجال الاقتصادي، سوف تضمن الاقتصادات القائمة على التصدير، مثل الصين وألمانيا واليابان، بقاء نظام عالمي تجاري ليبرالي مبني على اتفاقيات التجارة الحرة وعضوية منظمة التجارة العالمية –بغض النظر عن المسار الذي تتخذه الولايات المتحدة. ومع ذلك، من المرجح أن يتوقف التعاون في الشؤون الأخرى للحوكمة العالمية. وحتى لو قادت إدارة أميركية مستقبلية دفعة جديدة نحو تعددية الأطراف ووضع القواعد والمعايير الدولية، فإن مكانة الصين كقوة عظمى-صغرى سوف تجعل من الصعب على الولايات المتحدة أن تديم القيادة القوية التي كانت قد حفزت مثل هذه المبادرات في الماضي. وسوف تمنع الاختلافات في الأيديولوجيا والمصالح الأمنية المتضاربة بكين وواشنطن من القيادة بشكل مشترك، لكن أياً منهما لن تمتلك ما يكفي من القوة الاقتصادية أو العسكرية لتقود وحدها. وبالقدر الذي تستمر فيه المبادرات متعددة الأطراف في مثل هذا العالم، فإنها ستكون مقصورة على مدار نفوذ أي من الجانبين.
سوف يوجه تركيز الصين على السيادة الوطنية، إلى جانب تحول المجتمعات الغربية بعيداً عن العولمة، ضربة إضافية إلى تعددية الأطراف. وقد انهار الاتحاد السوفياتي مسبقاً، وأعاد عدد من الدول الأوروبية فرض الضوابط على الحدود. وفي العقود المقبلة، سوف تحدث تطورات مماثلة في مجالات أخرى. وبينما يصبح الابتكار التكنولوجي مصدراً أساسياً للثروة، فإن البلدان ستصبح أكثر عناية بحماية ملكيتها الفكرية. كما تقوم العديد من الدول أيضاً بتشديد السيطرة على تدفقات رأس المال بينما تستعد لمواجهة تراجع اقتصادي عالمي في المستقبل القريب. وبينما تهدد المخاوف من الهجرة والبطالة بتقويض شرعية الحكومات الغربية، سوف تفرض المزيد والمزيد من البلدان القيود على منح التأشيرات للعمال الأجانب.
خلافاً للنظام الذي ساد خلال حقبة الحرب الباردة، سوف يتشكل نظام أميركي-صيني ثنائي القطبية من خلال تحالفات مائعة حول قضايا محدودة أكثر مما تشكله كتل متعارضة صلبة مقسمة على أساس خطوط أيديولوجية واضحة. وبما أن الخطر المباشر لنشوب حرب أميركية-صينية سيكون صغيراً وقريباً من الصفر، لا يبدو أن أياً من الطرفين يرغب في بناء أو إدامة شبكة كثيفة -ومتوسعة- من التحالفات. وما تزال الصين تتجنب تشكيل تحالفات واضحة، بينما تشكو الولايات المتحدة بشكل متكرر من الحلفاء المنتفعين الذين يركبون بالمجان. وبالإضافة إلى ذلك، لا يستطيع أي من الطرفين الآن أن يعرض سرداً كبيراً شاملاً أو رؤية عالمية يمكن أن تروق لأغلبيات كبيرة في الوطن، ناهيك عن عدد كبير من الدول.
لذلك، ولبعض الوقت في المستقبل، لن تكون الثنائية القطبية الأميركية-الصينية، صراعاً وجودياً مدفوعاً بالأيديولوجيا حول الطبيعة الأساسية للنظام الدولي؛ بدلاً من ذلك، سوف تكون منافسة على الأسواق الاستهلاكية والميزات التكنولوجية، والتي تتجلى في شكل نزاعات حول الأعراف والقواعد التي تحكم التجارة، والاستثمار، والاستخدام، وأسعار صرف العملات، والملكية الفكرية. وبدلاً من الكتل العسكرية-الاقتصادية المعرَّفة بدقة، سوف تتبنى معظم الدول سياسة خارجية من مسارين، حيث تصطف مع الولايات المتحدة في بعض القضايا ومع الصين في أخرى. وما يزال الحلفاء الغربيون، على سبيل المثال، متحالفين بشكل وثيق مع الولايات المتحدة حول شؤون الأمن التقليدية داخل الناتو، وقد دعمت أستراليا والهند واليابان استراتيجية الولايات المتحدة في المحيط الهندي. وفي الوقت نفسه، ما تزال هذه الدول تحتفظ بعلاقات تجارية واستثمارية وثيقة مع الصين، وقد اصطفت العديد منها إلى جانب بكين في محاولة إصلاح منظمة التجارة العالمية.
تظهر هذه الاستراتيجية ذات المسارين المدى الذي قطعه تقدم العالم على مسار الثنائية القطبية مسبقاً. وسوف يعزز المحرك الأساسي لهذه العملية -النفوذ الاقتصادي والعسكري الخام الذي تستند إليه الهيمنة الأميركية -والصين بشكل متزايد- مكانة بكين وواشنطن باعتبارهما القوتين العالميتين ثقيلتي الوزن في العقد المقبل. أما إذا كانت الولايات المتحدة ستتعافى من الحمى الترامبية وتقود دفعة متجددة لليبرالية العالمية، فشأن ستكون له في نهاية المطاف تأثيرات ضئيلة على النتيجة: فباعتبار أنهما متعارضتان في مصالحهما الاستراتيجية -وإنما متساويتان في قوتهما- لن تكون الصين والولايات المتحدة قادرتين على تحدي بعضهما البعض مباشرة وتسوية الصراع على التفوق بشكل نهائي. وكما كان الحال خلال فترة الحرب الباردة، سوف تمنع الرؤوس النووية الحربية لدى كل طرف الصراعات بالوكالة من أن تتصاعد بسهولة إلى مواجهة مباشرة بين القوتين العظميين. لكن الأكثر أهمية مع ذلك، هو أن القيادة الصينية على وعي كامل بالفوائد التي يجنيها بلدها من الوضع الراهن -وهو على رأس قائمة الشروط التي ساعدت توسع الصين الاقتصادي وقوتها الناعمة- وسوف تتجنب وضع هذه المنافع تحت الخطر في أي وقت قريب، إلا إذا أصبحت مصالح الصين الجوهرية على المحك. ولذلك، سوف يعمل القادة الصينيون جاهدين لتجنب انطلاق أجراس الإنذار في عواصم الغرب المتوترة سلفاً، وسوف تعكس سياستهم الخارجية في السنوات المقبلة هذا الهدف. ولذلك، لكم أن توقعوا مشاهدة التوترات المتكررة والمنافسة الشرسة، نعم، وإنما ليس هبوطاً إلى دوامة الفوضى العالمية.
 
*أستاذ متميز وعميد معهد العلاقات الدولية في جامعة تسينغهوا.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Age of Uneasy Peace: Chinese Power in a Divided World