Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    21-Jun-2019

الشــاعـر فـــي مجمـوعـتـه الأولــى

 الدستور-علي جعفر العلاق

حين يصدر الشاعر ديوانه الأول فكأنه يبني الضفة الأولى لنهر الكلام، كلامه الذي سيتضاعف ويتعقد وترتفع مناسيبه مجموعةً بعد أخرى. وبين مجموعته الأولى ومجموعته الأخيرة يمتد خيط الكلام امتداد عمر الشاعر، الذي يمسك بطرفٍ من  هذا الخيط ليقيس به نبض الماء تارة وانفعال الموج تارة أخرى. 
والمجموعة الأولى قد تكون مأزقاً للشاعر إذا لم يكن لديه، بعدها، ما يقوله . وقد تكون صيحةً لا تعني شيئاً، لكنها تضاف الى حقلٍ من الضجيج المتشابه. وربما تشكل مجموعته الأولى خميرةً لمصيرٍ شعريّ مثيرٍ للانتباه إذا أحسن الشاعر تربيتها. أيْ أن هناك مآلاتٍ ثلاثة، تتوقف جميعاً تقريباً على موهبة الشاعر، وعلى وعيه، وعلى ثقافته.
وربما بدت مجموعتي الأولى: «لا شيء يحدث .. لا أحد يجيء «1973، وكأنها محاولةٌ للتعامل، بطريقةٍ خاصة، مع اللغة، والصورة، و الإيقاع. وكانت مغامرةً بالنسبة لشاعرٍ يصدر ديوانه الأول أن يظنَّ، ومنذ البداية، أن باستطاعته أن يربكَ إيقاع الموج أو يتركَ بعض الخدوش على هذه الأعمدة الشعرية الثلاثة من أعمدة القصيدة المتعارف عليها.
ويبدو لي أن تعاملي مع هذه الأعمدة الشعرية لم يكن ناتجاً عن جرأةٍ مجردةٍ على اللغة، أو استخفافٍ بالإيقاع الشعريّ. ولم يكن أيضا ًمبالغةً في تقدير الصورة الشعرية في حدّ ذاتها. بل كان وليد رغبةٍ مشوبةٍ بقدْرٍ لا بأس به من الوعي الغائم أحياناً. لقد تمكنتْ مني منذا البداية رغبةٌ ملحةٌ في في أن أكون مختلفاً عن جيلي.
. لذلك كانت اللغة شاغلي الأول في تلك المجموعة ، حتى أنني كنتُ أبالغ أحياناً في العناية بها، وتنقيتها من حَسَكِ الطريق وما يتساقط من ثياب المارة. ولأنني شديد النفور من الثرثرة الشعرية والتعبير المطوّل، حدّ التخمة، عن معنىً ما، كنت أتمادى في العمل أحياناً على أن يكون النصّ الذي أكتبه موجزاً وخالياً، إلى أقصى حدّ ممكن، من  النتوءات و الاستطالات و الباروكات اللغوية الفائضة عن الحاجة. كنت كمن يسعى إلى قصيدةٍ ملمومةٍ، مكتفيةٍ بذاتها، تومئ أكثر مما تتحدث، وتُحَسُّ أكثر مما تُفَهم. وكان المعنى لا يسلم من الأذى دائماً نتيجة هذه النزعة الى التضييق والايجاز. 
أما ولعي بالصورة فكاد أن يصل حد الهوس .وحتى هذه اللحظة لا أجد مبتغاي في القصيدة التي تهرول إلى معناها مباشرةً، دون جهدٍ يضبّب المعنى ويخفف من ملامحه الحادة. كنت أعتقد أن القصيدة لا تدلّ على نفسها إلاّ من خلال عنايةٍ فنيةٍ لا تكتم أنفاس النصّ، ولا تقوده الى مصيرٍ قسريّ يفرضه الشاعرعليه . وقد أشار الشاعر الراحل فوزي كريم، في كلمته الملحقة بالديوان، الى هذا المنحى حين قال إن « العلاق مولدُ صورٍ بارع ،لا يلتفت الى الآخرين، بل يعيد الصياغة لتكون اللغةُ أكثر براءةً وأشدّ بدائية « :
(رحيلكِ طيرٌ من القشِّ يقتادُني
صوبَ أرضِ البكاءْ ..
ولم تكن تخلو حتى تجاربي في القصيدة العمودية من هذا الغلوّ :
حقائبي حطبٌ يبكي، وحنجرتي 
سفينةٌ شبَّ في أعشابها
الصدأُ ..)
وظلّ هذا النزوع إلى التعبير بالصور يرافقني في معظم كتاباتي الشعرية اللاحقة، مع أنني كنت أسعى الى جعله أكثر انضباطاً قدر ما أستطيع.
ولم يكن ميلي إلى الإيقاع إلاّ جزءاً من توجّهٍ كنت أحاول ترسيخه في ما أكتب من نصوص. كنت أرى أن الإيقاع كان وسيظل، ولكن بدوافع جماليةٍ ودلاليةٍ جديدة، مكوناً شعرياً مهمّاً إذا أحسن الشاعرتمثّلَ قيمته والكشفَ عن إمكانياته. ولا أعني بالإيقاع هنا، مَدَيات البيت الشعريّ الموروث، الجاهز، أوالمعدّ سلفاً، فقط، بل ما في اللغة ذاتها من فيضٍ كامنٍ من الليونة والتموج والحوار بين المكونات. كنت أحاول، في هذه المجموعة، عرقلةَ بعض الأوزان الشعرية وتهدئة لهاثها المتسارع. ولم أكن أبالي أحياناً حتى بارتكاب بعض الوقفات الوزنية من أجل تحقيق هذا الغرض. 
دخلتُ بمجموعتي الأولى تلك، الى مشهدٍ شعريٍّ صاخب، دخولَ اليتيم الذاهل إلى سوقٍ تضجُّ بالباعة الفرحين. قبائلُ أيدلوجيةٌ تتصايح على بعضها. وتعرض بضاعتها بإغراءاتٍ مدروسةٍ بعناية. كان هناك شعراء موهوبون حقاً، وشعراء أقلّ موهبةً لكنهم أكثرُ ذكاءً. أما البعض الآخر، وهم كثيرون على أيّة حال، فشعراء دفعتهم الى الواجهة رافعاتٌ نقديةٌ مؤدلجةٌ، تحتفي باليقين الماركسيّ أو القوميّ الذي لا سند واقعياً له يؤيده. ومن تلك الرافعات النقدية أيضاً ما يقصر مهمته على استخلاص المعنى أياً كان موضوع القصيدة وأياً كان منحاها التعبيريّ . وهكذا لم يجد ديوان «لا شيء يحدث .. لا أحد يجيء» من يشاركه فرحه الغائم أو نبرته الفردية ..
وفي الوقت الذي لم أجد، في بغداد، مثلاً، إلاّ تغطياتٍ صحفيةً عابرة لهذه المجموعة، كان محمد شكري يحتفي بها، في جريدة المحرر المغربية، بحماسةٍ عاليةٍ: «صادمةٌ جِدّةُ هذا الشعر». غير أن الالتفات إلى خصوصيتها اللغوية واجتهاداتها الإيقاعية والبلاغية لم يظهر إلاّ لاحقاً في ضوء ما ظهر من مقارباتٍ نقديةٍ تحتفي بشعرية النصّ بطريقةٍ جديدة.
يمكنني القول إنّ مجموعتي الأولى» لا شيء يحدث .. لا أحد يجيء « كانت تمريناً شعرياً جريئاً، أمدّني  بالكثير من الافتتان الطفوليّ باللغة والإيقاع. وكان فيها من الصور ما يندرج في غرابةٍ تعبيريةٍ أجدها، آنذاك، عامرةً بالترف اللغويّ والذهاب الى المعنى بطرقٍ لم تسلكها، قبلي، قوافل كثيرة.