Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    05-Nov-2021

مطلق عبد الخالق الشاعر العشريني الذي رحل قبل الأوان

 الدستور-د. إبراهيم خليل

 يصادف التاسع من شهر تشرين الثاني الذكرى الرابعة والثمانين لوفاة الشاعر مطلق عبد الخالق في حادث سير، ولمّا يتجاوز السابعة والعشرين من عمره. ويبدو أن حظه غير الحسن في الحياة كحظه في الدراسات التي تتناول شعره، فقلَّ من يهتم به، أو يتذكره، اللهم إلا ناصر الدين الأسد الذي تطرق لشعره في محاضراته عن الشعر الحديث في الأردن وفلسطين (القاهرة:1961) وعبد الرحمن ياغي الذي ذكره فيمن ذكر من شعراء ما قبل النكبة في كتابه القيم (حياة الأدب الفلسطيني الحديث) (1981) مشيرا لدوره في صحيفة النفير. و ذكرهُ خالد علي مصطفى في (الشعر الفلسطيني الحديث) منوها لنزعته الرومانسية المتوهجة التي غلب عليها الشعر الوطني، والغزلي، والصوفي(بغداد: 1978). وفي العام 2010 صدر في المُحتل من فلسطين عام 1948 كتابٌ في( 144ص) من تأليف صلاح محاجنة نشرته أكاديمية القاسمي في باقة الغربية، بعنوان (مُطلق عبد الخالق شاعر فلسطيني أغفله التاريخ).
والكتاب الذي يقع في عدد من الفصول يستوفي الحديث عن سيرته. فهو من مواليد 1910 في الحي الغربي من الناصرة المعروف باسم حي الميدان. ووالدته سعاد عبد الغني. وأخوه صبحي عبد الخالق كان عازفا مشهورًا على الكمنجة، مقيما بلبنان. وهو الذي جمع شعر أخيه مطلق، ونشره ببيروت عن دار الأحد (1938) متضمنا بعض الكلمات التي قيلت في تأبينه. غير أن النشرة خلت من مقدمة مناسبة تسلط الضوء على شعره من حيث الرؤية والتشكيل الفني، علاوةً على أنها تفتقر للتنقيح، والتدقيق، وتخلو من فهرس للمحتوى. فقد وردت فيها أخطاء ربما كانت من الطابع، أو من الشاعر نفسه الذي لم تُتِح له الوفاةُ العَجْلى، المفاجئة، إعادة النظر في مسوّدات القصائد، لذا نبه بعضهم على وقوع الاضطراب العروضي في أبيات معينة من شواهده (الأسد: ص164). والمؤسف أن الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين قامت بإعادة نشر الديوان (1982) دون أن تجري فيه تغييرًا، إلا من ذكر اسم وليد أبو بكر بصفته المتبرع بتكاليف النشر مساهمة منه في إحياء التراث الفلسطيني.
ويبدو أنّ أسرته كانت ميسورة الحال، أقرب إلى الغنى منها إلى الفقر، وإلى اليسر أقرب منها إلى العسر، فوالده كان يمتلك أراضي متعددة بوثائق ملكية من العهد العثماني، ويشار إلى أنه كان مختارًا.
ويذكر المحاجنة الكثير من التفاصيل عن دراسته، ووظائفه، ففي مرْحلة منها غادر الناصرة للقدس، وفي أخرى غادر القدس إلى حيفا، وعمل في الصحافة، ثم موظفًا في البنك العربي، ثم مدرسًا، فرئيس تحرير لجريدة النفير، بعد المجلة الكشفية التي أنشأها مع بعض الشبان باسم (كشافة الصحراء) التي صدر عددها الأول في تموز 1927.
ويعده كامل السوافيري في كتابه (الشعر الفلسطيني الحديث من 1860 – 1960) من الرواد، شأنه في هذا شأن حسن البحيري وإبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وهو الجيل الذي تبع أبا إقبال اليعقوبي ومحمود الحوت ومحمد العدناني وبرهان الدين العبوشي. وفي رأي راضي صدوق هو ألمعُ شعراء الثلاثينات بما ينماز به شعره من الألق الرومانسي المحبّب، ولا سيما في تأملاته التي تزخر بالأوجاع والألم ( شعراء فلسطين في القرن العشرين: ط1، روما، 2000). وتأكيدًا لما ذكره كل من صدوق وخالد على مصطفى نحيل القارئ إلى قصيدة له بعنوان (في روضة الدنيا) تذكــّرُنا بما غلب على الرومانسيين من شعر تأمّلي تتناسل فيه الخواطر التي تشفّ عما في نفس الشاعر، وروحه، من تطلعات، وآمال للاندماج في الكون، بما فيه من طبيعة مزهرة، وأنهر جارية مطردة، وطيور مغردة، وسماء زرقاء صافية ومتجدّدة، ومن خضرة غناء توحي بالسحر، وبالإلهام الذي يجودُ به الشعر. يقول في أبيات منها:
يا مربع السحر ويا
موطـن الأحلام
ومرتع الشـعر ويا
مهبــِــطَ الإلهـــام
فهو، كغيره من الرومانسيين، ينظرُ لجماليات الكون بصفتها المصدر الغني الثرّ الذي يستوحي منه أشعارهُ، ويستخلص من تأمله فيه بعض أفكاره. وفي أخرى يخاطب الشاعر مطلق عبد الخالق شهر نيسان، وهو شهر الدفء والربيع، وليس كشهر نيسان الذي وصفَه إليوت Eliot بأقسى الشهور. بل هو كشهر نيسان الذي وصفته فدوى طوقان في قصيدة (وجدتها) بشهر الدفء، والخِصْب، حيث الشمس تتألق مُشعشعة على العشب النديّ.
ومع أن الرومانسية غلبت على شعره، إلا أنّ موضوع النضال الفلسطيني لم يغب عنه قطعًا، بل تواتر في شعره الحديث عن الشهادة والشهيد، وعن الوطن، وعن العدو المتربّص، الطامع بفلسطين أرض الآباء والأجداد. فهو يدعو نفسه، وغيره من الشعراء، ألا يفوتهم رثاء الشهداء، وتأبينهم، والدعاء لهم بالرحمة والمغفرة، والإشادة بما قدموه من تضحيات في سبيل الوطن:
أنشد الشعر وحيي الشهداء
وأجِدْ فيهم أخا العُرْب الرثاء
واملأ الدنيا حنينا وجوى
وفم الدهر مديحا ورثاء
حيّ ذكراهم وقف في حيهم
وتخيلهم صباحا ومساء
واسكب القلب على أرْماسِهم
قطراتٍ واذرف الدمع دماءْ
وفي قصيدة (فلسطين الشهيدة) يلحُّ الشاعرُ على أن الصراع مع الصهاينة، والإنجليز، على السواء، صراع لا يمكن أن ينتهي إلا بعد تحريرها، فالشعب الفلسطيني آلى على نفسه إلا أنْ يظل في صراع مع العدو حتى ينجلي ليل الانتداب، وينقشع الاحْتلال، وتضيءَ سماء البلاد بشمس الحرية، وتزهو بأكاليل النصر والغار، فإرادة الشعوب من إرادة الله؛ تنتصرُ ولا تقهر:
فنحن وهم سنبقى في صراع
إلى أن ننقذ الحق الصريعا
ونعقد فوق هامك تاج غارٍ
ونُسْكِنُك الحنايا والضلوعــــا
ونسخر من عدوٍّ مستبد
وعين الله ترقبنا جميــعــــــا
ويبدو أنّ الشاعر مطلق عبد الخالق، على الرغم من تحليه بالصمود، وبعنفوان الشباب الثائر، إلا أنّ شعره لا يخلو من هاتيك الرؤى المتشائمة التي توشك أنْ ترى الوطن وقد ضاع، وآل لأولئك الأفّاقين الذين جاءوا إليه يستلبونه من آخر الدنيا، مدّعين أن هذا الوطن أرضهم الموعودة. ولهذا نجد في شعره نغمة الحزن على هذه المآلات، في زمن كانت فيه الثورات على الصهاينة والإنجليز لم تُحْسم بعد:
دمعة حرى على وطن
خطبه والله آلمني
كلما حاولتُ أندبه
خانني دمعي فلم يَعِنِ
تنضب العين إذا غشيتـ
ها قطُبُ الأحزان والشَجَنِ
ويجفُّ الدمع في مقل ٍ
مثل ماء المزن في القننِ
فكأنّ العين ما وجدتْ
وكأنَّ الدمع لم يكنِ
وهذا يذكرنا ببعض ما شَعَر به، وأحس الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود، عندما خاطب وليَّ العهد السعودي قائلا:
المسجـــــدُ الأقصى أجئتَ تزورهُ
أمْ جئتَ من قبل الضياع تودّعـه
وكعادة الرومانسيين لطالما يشكو الشاعر من الألم، ومما يحيط به من ظروف لا يدَ له فيها، تجود عليه بكل ما هو مؤلمٌ، ومُفجع. ففي قصيدة له بعنون (يا أخي) يذكرنا بشعراء المهجر الشمالي، ووفرة استخدامهم هذا العنوان. يقول:
يا أخي إنني – وحقكَ- مشتاقٌ إليك
وعنكَ ما لي غناءُ
بيَ داءٌ
سَلِ اصْفراريَ عنهُ
وشحوبي، وفي لقاكَ الدواءُ
فهذه الأخوّة بلسمٌ يشفي العليل، ويبرئ السقيم. ويتكرَّر هذا النداءُ «يا أخي» في قصائد عدة بعضها يمضي بنا وبالشاعر إلى تخوم التصوّف، وفناء الذات بالآخر الحبيب. فقد زعم بعض الذين أشاروا إليه، وكتبوا عنه، أن في شعره ميلا للتصوف، وربما فعلوا ذلك حين وجدوا في ديوانه (الرحيل) قصيدة بعنوان « غزلٌ صوفي « وفيها يدعو بلا مواربة للاتحاد الكلي بين المتكلم والمخاطب في القصيدة. يقول:
يا حبيبي
أنا مشتاقٌ ولي فيك رجاء
يا حبيبي هذه الدنيا
فراقٌ ولقاءُ
هاكَ آلاميَ داءٌ
ومناجاتي دواءُ
ولا يختلفُ عبد الخالق عن سائر الشعراء الرومانسيين، فهم كثيرًا ما يصابون بمرضٍ يعقبه ألمٌ منه يستوحون مادة الشعر. وهذا المرض أطلق عليه بعضهم اسم المرض الرومانسي. وهو الذي يحيل الشعر - من حيثُ هو لغة - إلى بوح هامس تارةً، وتوجّع صارخ تارة أخرى، ونجد هذا في شعر خليل مطران، وقصيدته المساء، مثلما نجدهُ في أشعار الشابي بغزارة، وفي شعر الهمشري، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي، وأشعار المهجريين، أمثال: ميخائيل نعيمة، وجبران، وأبي ماضي، والشاعر اللبناني يوسف غصّوب. وها هو مطلق عبد الخالق يجري على منوالهم في التحدث عن المرض:
أقضي طويل الليل وَسْنان ساهدًا
تحاول إغماض الجفون عيونُ
ويخمد هذا الصدر وهو جهنمٌ
ويرقصُ هذا القلب وهو حزينُ
وكيف ينام الليل أسيانُ، ليله
شؤون حياةٍ مُرَّةٍ، وشجونُ
يفكر في الدنيا تفكـُّر ذاهلٍ
وفي خطراتٍ حالهنَّ جنون
ويقتله الداء المبرِّح حقبة
فتظلم دنيا فكره .. وتهونُ
أيا ما يكن الأمر، فإن لهذا الشاعر الذي قضى وهو في ميعة صباه، واعدًا بالكثير من العطاء الشعري الجزل الرصين، تجاربه في اللغة الشعرية، وفي الموسيقى، وفي بناء القصيدة. إذ من الملاحِظ التي تروق للمهتمين بغنائية القصيدة، وفرةُ الموشحات في شعره، وهي موشَّحاتٌ تنمُّ على قدرته اللافتة في التصرف بالأوزان، والتشكيل الرائق في القوافي، وهذا نموذج مما تتجلى فيه تلكم البراعة:
أيام كــــــنا تحت دوح البــانْ
صرعى الحنـــــينْ
والطير يشدو أعذب الألحانْ
فــوق الغصـــونْ
والزهـــــر زاهٍ مورقٌ فينــــانْ
بــــادي الفتــــونْ
وشيءٌ آخر يُلاحظ، وهو كثرة تصرفه في استخدام الأوزان الخفيفة، كمجزوء الخفيف، ومجزوء الرمل، ونظمه قصائد على المديد. وهو من البحور قليلة التواتر في الشعر العربي القديم، والحديث، لصعوبته، مع أنه يتصف بإيقاع رائع إذا كان معلولا بالخبن والحذف، عروضًا وضربًا، كقول مطلق في:
وطني والله ،أعْبُـُـــدُه
وأفـــدّيه مــــدى الزمنِ
بالذي أحْويه من ألم ٍ
والذي ألقاهُ من مِحَنِ
والأغربُ من هذا وذاك أنّ في ديوانه قصيدةً، أو لنقل: أرجوزة بكلمة أدقّ، نظمها على مشطور الرجز الذي شاع في شعر البدو في عصر صدر الإسلام، والعصر الأموي، ونبغ فيه كثيرون يعرفون باسم الرُجّاز ومنهم العجاج، والعَرْجي، وأبو النجم العجلي، وذو الرمة(1)، ومزية هذا النظم كونه على مشطور الرجز، ويلتزم فيه الشاعر قافية واحدة مطّردة:
ربي إله العــــــــــالم العجيبِ
وفالق الأصباح والغــــروبِ
وباعث الآمـال في القلوبِ
سريعة الخطــوب والوجيبِ
وإشارتنا هذه لمشطور الرجز عنده سببُها أن الشعراء كانوا يزعمون صعوبة هذا النظم، ووعورة النهج فيه، حتى إنَّ بعضهم تحدى بشارًا- وهو مَنْ هو في الشعر- أن يأتي بشيء منه، فطلع على القوم بأرجوزته المشهورة:
بالله يا طللا بذاتَ الصَمْـــــدِ
بالله خبِّر كيف صرْتَ بعــدي
أُوحِشْتَ من دعدٍ ونأي دعد
سُقيـــًا لأسْــماءَ ابنــةِ الألـــــــدّ
ومع أنّ عامة الناس يعتقدون أن الرجز سَهْل، يسيرٌ على الشاعر نظمُه، إلا أنه في العصر الذي ظهرت فيه جماعة الرُجّاز أضحى فنًا تتراءى فيه مظاهر البداوة في الألفاظ والمعاني، والمتانة في التركيب والصورة. ولهذا تعرَّض، فضلا عن بشّار، آخرون لمثل هذا التحدي الذي ذكرناه. وأن يقوم مطلق عبد الخالق بنظم أرجوزة على ذلك النَسق، فذلك يؤكد متانة نسيجه، وقوّة بديهته، ووفرة ذخيرته من الألفاظ التي تطرد معها القافية دون أن يقع في مأخذ الإيطاء، وتكرار الروي. وتبعًا لهذا نستطيع القول بأنَّ مطلقا لو قُدر له أنْ ينسأ الله في أجله، وألا يذهب في ذلك اليوم (9/11/ 1937) زائرًا للشاعر وديع فلسطين، وألا يتعرض لذلك الحادث، لجاءَنا بالشعر الجزل المتين، والنظم المستحسن الرصين.
فرَحِمَ الله مطلق عبد الخالق الذي فقدناه وهو ابن سبعٍ وعشرين.