Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    12-Jul-2017

المضامين الجديدة للتعليم - د. محي الدين توق
 
 
الغد- تناولتُ في مقالاتي الثلاث السابقة (الرأي 22/3، الغد 15/4، والغد 19/4) التوجُّهات المستقبليّة للتعليم، وتطوير إطار شامل لإعداد وتدريب المعلّمين. وسأتناول في هذه المقالة بعض المضامين والتوجُّهات الجديدة للتعليم في القرن الحادي والعشرين. وقبل الحديث عن هذه المضامين لا بدَّ من التأكيد بداية أنّه لا يمكن ولا يجوز النظر إليها بمعزل عن المنظومة الشاملة للعمليّة التعليميّة في مدرسة المستقبل، فما هي هذه المنظومة؟ تشير الدروس المستفادة من تجارب الدُّول التي حققت إنجازات ملموسة في التعليم في السنوات العشرين الأخيرة إلى المكوّنات التاليّة لمنظومة التعليم الشّاملة؛ 
1. الرؤية الواضحة والأهداف الطموحة القابلة للقياس والتوقعّات العاليّة من جميع العاملين في حقل التعليم والتي يتم  قبولها وتبنّيها من قبل القيادات السياسيّة والمجتمعيّة في الدولة.
2. خبرات التعلُّم القويّة النّظاميّة وغير النظاميّة لجميع المتعلّمين بغضِّ النظر عن قدراتهم واستعداداتهم طوال العام وليس خلال العام الدراسي فقط.
3. بيئة التعلُّم المدرسيّة الثريّة والمتنوعة والملائمة لجميع المتعلّمين.
4. الفهم الجديد والمتطور لخصائص المتعلّمين وحاجاتهم وكيفيّة تعلّمهم.
5. دعم النمو المتكامل لجميع من في المدرسة من معلّمين ومتعلّمين ومدراء وغيرهم من التربويّين بالتركيز على الخرائط الذهنيّة والمعرفيّة.
6. الإعداد والتدريب الفعّالين للمعلّمين والمدراء وتنميتهم مهنيّاً بشكل مستمر والبناء على مواهبهم وقدراتهم.
7. اعتماد معايير مهنيّة للمعلّمين والمدراء بمؤشرات أداء واضحة ومحدودة تستخدم بشكل فعّال ووظيفي في تنميتهم المهنيّة وفي مراقبة أدائهم وتقييمه، وإخضاع الجميع للمساءلة بما فيها المساءلة المجتمعيّة.
8. الاستغلال الديناميكي والأمثل للمكان على نطاق المدرسة والصف المدرسي لتلبية الحاجات النمائيّة المختلفة للمتعلّمين.
9. التفاعل الثريّ ما بين المدرسة وأولياء الأمور والمجتمع المحلّي الذي توجد فيه المدرسة.
10. إعطاء وقت حر أكبر للمتعلّمين في المدرسة لممارسة النشاطات المختلفة لاكتشاف مواهبهم وصقلها ومساعدتهم على الابتكار والإبداع.
فما هي المضامين الجديدة للتعليم على ضوء هذه المكوّنات؟
إلى وقت قريب كان ينظر لمضامين التعليم نظرة ضيّقة، إلّا أنّها كانت نظرة عمليّة تتناسب مع مرحلة ما قبل اقتصاد المعرفة، وغالباً ما كان المربّون يعتبرون أنّ هناك مكونيّن أساسيين لمضامين التعليم؛ مجموعة المهارات اللازمة للعيش والتعلُّم والعمل، ومجموعة القيّم والمفاهيم والمبادئ العلميّة اللازمة للحفاظ على التراث وتقدّم الإنسانيّة. ومن هذا المنظور شكلت المهارات اللغويّة والرياضيّة والحاسوبيّة عصب المكوّن الأول، وهي أساسيّة للحياة والعمل وبناء وتطوير الذات واستمرار التعلُّم والتنميّة الذاتيّة والتفاعل مع الآخرين. وشكّلت القيم الدينيّة أو الأخلاقيّة ومبادئ ومفاهيم العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة عصب المكوّن الثاني، وهي أساسيّة لاكتساب قيم وتاريخ الوطن والأمّة، وتراث الإنسانيّة من العلوم والفنون، والتفاهم والعيش المشترك، والتفاعل المثمر مع البيئة والمجتمع، والحفاظ على التراث، وتطوير المواطنة. ومع تسارع العولمة، وثورة التكنولوجيا والمعلومات، وانفتاح العالم على بعضه بعضا،  بدأت تتضّح معالم مكوّن ثالث مهم في مضامين التعليم، وهو ما يعرف مجازاً "بمهارات القرن الحادي والعشرين" اللازمة للدخول الناجح في مجتمع اقتصاد المعرفة ومواجهة تحديّات المستقبل  مثل مهارات الإبداع، وحل المشكلات، والتفكير النقدي، والإتصال وما إلى ذلك.
أدّى تغير أنماط وعلاقات العمل، والتقادم السريع للمعلومات والمهارات المطلوبة في عالم الأعمال إلى تزايد الضغوط على المؤسّسات التعليميّة لتحقيق مواءمة أفضل بين عالم التعليم وعالم العمل، وكانت إحدى تجليّاته زيادة التركيز على مهارات تعلُّم كيفية التعلّم، وأدّى ذلك كله إلى التركيز ليس على إكساب المتعلّمين مهارات التعلُّم الذاتي فحسب، بل وإلى دخول مزوّدين جدد إلى عالم التعليم والتدريب من القطاع الخاص ومؤسّسات العمل ومراكز الإنتاج ومؤسّسات المجتمع المدني ومحرّكات البحث والإنترنت بشكل خاص. وعلى ضوء ذلك تطوّر ما يعرف الآن بإطار المؤهلّات الوطنيّة National Qualification Framework  لاعتماد برامج التعليم والتدريب غير النظاميّة والمصادقة عليها واعتمادها. ولإعطاء مثال واحد على انتشار هذه الحركة في مجال إعداد المعلّمين، فإن ما يقرب من ثلث المعلّمين الجدد في الولايّات المتحدّة يتلقّون إعدادهم الأوّلي من خلال مزودّين جدد خارج نطاق التعليم والإعداد النّظامي الذي يتم في العادة في كليّات التربيّة وإعداد المعلّمين.
لم تقتصر التحولات المتعلقة بمضامين التعليم الحديثة على مكونات محتوى المناهج المدرسيّة فحسب، بل امتدّت لتشمل الغرض والهدف من وراء تعليم هذه المكوّنات، والمقاربات البيداغوجيّة لتدريسها على حد سواء. وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ لا جديد في هذه التحولات، إلاّ أن تفحص مقاربات الدول المختلفة لهذه المضامين والغاية من وراء تدريسها يوصلنا إلى صورة مختلفة تماماً. فإذا أخذنا موضوع اللغة الوطنيّة كمثال، فإنّ النظرة الحديثة لتدريسها هي في الأساس لتطوير الفهم وتأصيل الفكر والإبداع، بقدر ما هي للاستمتاع وبناء الاعتزاز الوطني، ولذا تحوّل تعليم اللغات الوطنيّة من مجرّد الترديد والتلقين والحفظ الصّمي لمجموعة مبادئ لغويّة  إلى وسيلة لفهم الذات والمجتمع، وللاتّصال السليم، والتفكير النقدي والخلّاق. وكمثال آخر، وبنفس المقدار، تحوّل تعليم الريّاضيات من مجرد حل المسائل إلى فهم واستيعاب العلاقات، وتطوير التفكير بأنواعه التحليلي والتركيبي والمنطقي، وحل المشكلات، وتطوير العلوم والتكنولوجيا. كما أنّ تعليم واستخدام الحاسوب انتقل من مجرّد كونه أداة مساعدة في التعليم إلى وسيلة للبحث، والربط، والتحليل، والتواصل، وزيادة فرص التعلُّم الذاتي وتنميّة الذات. وهذا يعني تحويل المهارات اللغوية والرياضيّة والحاسوبيّة إلى أدوات ووسائل للتنميّة، والتفكير، والإبداعيّة.
وفيما يتعلق بتعليم العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة فإنّ المقاربة التجزيئيّة لتدريس المواد والمباحث الدراسيّة بشكل منفصل عن بعضه بعضا أصبح من مخلّفات الماضي في ضوء ما يسمّى بتكامل المعرفة، وثورة المعلومات، والمهارات اللازمة للقرن الحادي والعشرين. ولتوضيح ذلك أورد المثل التالي عند تدريس مادّة الشعب المرجانيّة، في مبحث العلوم مثلاً يمكن دمج المفاهيم العلميّة المتعلّقة بتكوّن هذه الشعب مع درس القياسات في الرياضيّات ومع درس الحفاظ على البيئة البحريّة ودمج كل ذلك مع تدريس اللغة بحيث يقوم الطلبة باستخدام جميع المعلومات لكتابة تقرير حول الشعب المرجانيّة وعلاقتها بالحياة البحريّة. وعند تدريس التربيّة الدينيّة والأخلاقيّة يمكن إدماج موضوعات الصّحة والأمان والآداب العامّة والوعي البيئي مع بعضها بعضا. وفي هذا السياق خلصت دراسة دوليّة إلى أنّ المتعلّمين في القرن الحادي والعشرين يحتاجون إلى سبع مهارات أساسيّة حتّى يتمكنوا من العيش والعمل والمواطنة السليمة، وهذه المهارات هي التفكير النقدي وحل المشكلات، والتعاون والقيادة، والليونة والقدرة على التكيُّف، والمبادرة وريادة الأعمال، والتواصل اللفظي والكتابي الفعّال، والنفاذ إلى المعلومات وتحليلها، والفضول والخيال. وانطلاقاً من ذلك يرى معهد البحوث التربوي والابتكار (CERI) التابع لمنظمّة التعاون الاقتصادي والتنميّة (OECD) أنّ جميع المناهج التربويّة الحديثة يجب أن تركّز على ثلاثة أمور بشكل متكامل ومترابط، وهي المعلومات والأفكار، والتواصل والأخلاقيّات، والواقع الاجتماعي. ومن الواضح أنّ تدريس المباحث بشكل منفصل عن الواقع الاجتماعي والعلاقات الإنسانيّة والمشكلات المحليّة والبيئيّة لن يؤدّي إلى تحقيق المواءمة المطلوبة بين التعليم والعمل والمستقبل.
وإيماناً من اليونسكو بالأهميّة الكبرى للمضامين الجديدة للتعليم في تحقيق فاعليّة ومواءمة التعليم لمقتضيات القرن الحادي والعشرين كُلفت الدكتورة سلفيا سكوت وهي إحدى الباحثات المرموقات لدراسة هذا الأمر لمدّة عام كامل، خلصت بعده الدكتورة سكوت إلى تصنيف هذه المهارات في ثلاث فئات، هي فئة المهارات الشخصيّة من مثل روح المبادرة، والمرونة والمسؤوليّة، والمخاطرة، والإبداع، وفئة المهارات الاجتماعيّة من مثل العمل الجماعي، والتشبيك، والتعاطف، والرأفة، وفئة مهارات التعلّم كالإدارة، والتنظيم، ومهارات ما وراء المعرفة، والمثابرة.
إنّ كل ما سبق يشير بشكل واضح إلى ضرورة أن يتحول مضمون العمليّة التربويّة من معرفة مجزّئة أو وحدات ومواد منفصلة عن الواقع الذي يعيشه الطلّاب والمستقبل الذي يتطلّعون اليه، الى معرفة سليمة ومتكاملة ومتشابكة ومترابطة مع بعضها بعضا بحيث يكون لها معنى حقيقي في حياة الطلّاب، وبحيث يقدمون على التعلُّم بشغف ورغبة في الاستمرار فيه.
*الكاتب يعمل حالياً مديراً عامّاً لشركة الكادر العربي لتطوير وتحديث التعليم وسبق أن أدار برنامج التعليم للأونروا في كل من الأردن وسورية ولبنان والضفة الغربيّة وغزّة.