Tuesday 23rd of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    02-Dec-2020

حضور الصحراء في رواية «لقاء يوم الجمعة» للعراقي حامد فاضل

 القدس العربي-فاضل عبود التميمي

حضرت الصحراء بوصفها مكانا، ونسقا، وثقافة في رواية «لقاء يوم الجمعة» للعراقي حامد فاضل الصادرة عن دار الورشة للنشر والتوزيع بغداد 2020، على الرغم من أنها رواية تخيل تأريخي، همها الأول استرجاع حقبة من الحياة السياسية في مدينة (السماوة) العراقية، فهي تلاحق الخمسينيات من تأريخ العراق السياسي الحديث، ممثلة في تأسيس أول حلقة شيوعية في تلك المدينة الغافية على سعادات الفرات يومذاك، لتنسج سردا على منوال أحداثها يحكي قصة واقع يمور بفيض من الأحداث، وعندي أن حضور الصحراء في رواية هم سياسي كان بسببين: الأول ولع الروائي بالصحراء منذ أن أصدر مجموعته القصصية «ما ترويه الشمس ما يرويه القمر» 2004، والآخر: ارتباط الصحراء بالشأن السياسي العراقي في الأربعينيات، وما بعدها بسبب وجود سجن (نقرة السلمان) في صحراء السماوة الذي كان مدرسة نضال للمعارضة العراقية يومذاك، ولاسيما اليسارية منها.
ترى كيف حضرت الصحراء في متن الرواية؟ كان ذلك قد تم من خلال الربط بين الواقعي والمتخيل في مجموعة الألفاظ التي تنتمي إلى معجم الصحراء، التي شكلت الذخيرة الذهنية عند الروائي وهي تحيل على خصوصية الثقافة الصحراوية، التي تراكمت في لسانه وهو ينتج مفردات ذات وظيفة ناطقة بالمكان والزمان الصحراويين، حاملة ملامح تميز الأسلوب، لتكون جزءا مهما من المعجم النثري الروائي الذي أسهم في الاتصال مع المتلقي.
تقرأ في الرواية أن الإنسان «يسارع إلى نفض ما في جراب صدره من شجون» فقد استعاد السارد لفظ (الجراب) وهو كيس أو وِعاء يكون عادة مِن جِلْد يُحمَل فيه الزاد في الصحراء، وقد استعملته الرواية استعمالا مجازيا مشفوعا برغبة في إضفاء جمال المعنى على السياق السردي، ويصف السارد ذهابه إلى بيت بطل الرواية سهيل السماوي بقوله «ثم تنكبت الحاسوب، وتوجهت إلى منزل سهيل السماوي والشمس لما تظعن في هودج المشرق» فقد استحضر لفظ (تنكب) الذي ارتبط بثقافة الصحراء، فتنكب الشيءَ أي: ألقاه على مَنْكِبه، والمنكب: مجمع رأس العَضُد والكتف، ومنه قولهم فلان تنكب سلاحه، فضلا عن استحضاره (تظعن) من ظعن بمعنى: سارَ الْمُسافِرُ؛ اِرْتَحَلَ من مكان إلى آخر، واللفظان من ألفاظ الصحراء التي تلوكها ألسنة البدو كثيرا.
ويسعى السارد إلى استعارة الأجواء الصحراوية ليصف بها مساءات المدينة نحو قوله: «أزاح حديث حارس المدرسة الرماد عن وميض موقد البادية، وأجج بمحراث ذاكرته نار ذاكرة سهيل السماوي، التي ما يزال دفء نار الغضا يتشبث بها تشبث مالك بن الريب بوادي الغضا» فالنص يحيل على ثقافة تشبثت بـ(موقد البادية) و(المحراث) وهو آلة تستعمل لتقليب جمر النار في الكوانين والتنانير، فضلا عن التناص مع حكاية الشاعر الصعلوك مالك بن الريب، الذي رثى نفسه يوم دنت منيته، وهو بوادي الغضا، وللسارد نفسه أن يستعين بأجواء السرد الصحراوي على لسان السجين (سُهيل) وهو يقص على رفاقه «حكايات الصحراء حيث لا قيود في المعاصم، ولا سلاسل في الأعقاب، وهم في غمرة سحر الحكايات تتجلى لهم خيمة الحكاء البدوي يرونها منصوبة على مرآة الرمل التي لا تحدها الأبصار» وجود عبارات (حكايات الصحراء) و(سحر الحكايات ) و(خيمة الحكاء البدوي) و(مرآة الرمل) يحيل على مقامات السرد الصحراوي، أي بروتوكولات الحكي الليلي عند البدو.
 
وتحضر الصحراء بما تملك من حيوان في لغة الرواية، وإنْ كان الوصف يحيل على المدينة «كان الأستاذ منير الجميلي يسابق الوقت بعيني فهد رشيق، مطاردا غزلان السطور الراكضة على مرايا الورق، في الملخص الذي أنجزه الطالب»
 
فالقصص التي تروى في الصحراء، التي كان يرويها سارد أو حكاء، يعرفه أهل البادية؛ المسرود لهم الذين عادة ما يكونون أنيسي التلقي الممزوج بمتع الحياة اليسيرة، وقد اجتمعوا حول مائدة الليل، التي شواؤها السرد، فالنص السابق يحيل على أجزاء من معجم الحياة الصحراوية، ومستلزمات السرد فيها، فهي نتاج ثقافة اجتماعية استقرت على لسان السارد، وذاكرته لتمتد دلالاتها إلى متنه السردي، محيلة على هوية ثقافية مصدرها الصحراء، التي تحضر في أروقة السجن بوصفها يوتوبيا حياة.
وتحضر الصحراء بما تملك من حيوان في لغة الرواية، وإنْ كان الوصف يحيل على المدينة «كان الأستاذ منير الجميلي يسابق الوقت بعيني فهد رشيق، مطاردا غزلان السطور الراكضة على مرايا الورق، في الملخص الذي أنجزه الطالب» النص معني بوصف حال المدرس الذي فحص أوراق طلابه ممن كلفهم بكتابة تقارير ثقافية، لكن لغة السارد تأبى إلا أن تستحضر عبارات الصحراء، فالأستاذ يسابق الوقت بعيني فهد، والفهد ابن الصحراء الذي يتميز بسرعته الفائقة التي لا ينازعه فيها أحد، فضلا عن أن له نظرا ثاقبا، أما غزلان السطور فهي عبارات الطالب التي استعار لها أجمل حيوانات البراري مدحا لما كتب في تقريره ذاك، فالنص يحيل على انتقاءات مفعمة بروح التشكيل المكاني، المبني على تمثل حاجات الحياة البدوية، وهي ميسورة غير مركبة لكنها منفتحة على وصف بيئي يتصل بزمان محدد ومكان يتضافران في لغة الرواية ليكونا أنساقا لغوية همها الكشف عن مخزون المعجم الصحراوي الرابض في سياق الكتابة السردية المنتمية إلى عالم خاص. وتحضر الطبيعة الصحراوية على لسان دليل الصحراء وهو يصف جانبا من شعيب (الحْوَمي) الذي «كانت خيول السيول التي استفزها الربيعُ تخب فيه قاطعة مسافة 30 كم، كي تلتحق بقافلة الفرات الساعية لميقات دجلة» فسيول الشعيب تخب كما الفرس: أي تثور وتضطرب، وقد استفزها الربيع على سبيل الاستعارة المجسدة، التي تؤنسن الطبيعة الصحراوية استعاريا، أي تبث الحياة في جمادها لتمارس هيمنة جمالية في لغة الرواية، بوصفها واجهة السرد الذي لا مفر من الاندماج في أنساقه، فالصحراء بوصلة الدليل الذي لا خرائط عنده سوى الذاكرة، التي تمده بالوضوح الذي يغتال الغموض، فضلا عن العلن الذي يطارد الأسرار، فدليل الصحراء يجعل من كثبان الصحراء، ورمالها خزينا هائلا من المعلومات التي تكون دليله إلى الاتجاه الصحيح ليلا ونهارا، فهو عارف بحركة الرياح، وطبيعة الأنواء، وفي ذاكرته تتكدس صفحات التذكر، والاسترجاع، وهي منفتحة على المثيولوجيا، وغرائب الحكايات الملونة بالفانتازيا والأساطير، وقوى الجن الخفية، والأرواح الشريرة، والخرافات التي تقترب في عقله من الحقائق، والحقائق التي تنغمس في تخيله بالشبهات، وقصص الحب، وغبار الغزوات والحرب، والسِير الشعبية، إلى جانب سرديات المهربين، والمستكشفين، والهاربين من سجن (نقرة السلمان) الشهير، ممن ضلوا في تيه الوهدان يدورون حول أنفسهم، فأهلكهم العطش والسغب؛ لتلتهمهم وحوش الصحراء في تلك الفيافي التي تحكي قدرة الخالق في صنع مسارات الطبيعة.
وبعد: فقد صار للصحراء انساقها القارة في ذاكرة السارد، على الرغم من أن أجواء الرواية تتشكل ضمن مجتمع مديني، لعل الوقوف عند أنساقها الظاهرة بهدف كشف المضمرة، سيؤدي بالنتيجة إلى فهم طبيعة بنائها في الذهن، ذاك الذي يحيل على مرجعية تأريخية سبق لها أن توغلت في تخيلات عدد غير محدد من أدباء العربية ممن سكن الصحراء أو جاورها، أو اتخذ منها وعاء للكتابة والنشر، فقد فرضت الصحراء عليهم نمطا من الإبداع، وحساسية في الرؤية، وطريقة خاصة في الأداء.
 
٭ أكاديمي وناقد من العراق